الجمعة، 7 أغسطس 2015

قراءة في كتاب ( العوسج سيرة وذكريات ) لمؤلفه د علي خليفة الكواري




د علي خليفة الكواري


 

 

بقلم : نورة السعد

 

لماذا المذكرات ؟

 

لان الذاكرة - على حد تعبير هربرت ماركوز - من أعلى مهمات الفكر شأنا ومن أقدم الانجازات النفسية وهي كذلك نتاج للحضارة . وبالرغم من ان الحضارة فعليا هي ترويض للذاكرة واخضاعها لقوانين ضابطة محكمة فالسلطة تسيطر على الزمن وتهيمن عليه بيد أن احياء الذكريات واطلاق قوتها التحريرية يعد جوهر الحياة ذاتها ومحركها الدائم فالذاكرة ضد التسليم للزمن وهي اداة للتحرر من سلطته فقد ارتبطت السعادة والحرية بفكرة الانتصار مجددا على الزمن ( اي عبر الزمن المسترد من النسيان )




 التزم الباحث علي الكواري في مذكراته بالترتيب الزمني لسرد الاحداث وتتابعها وتتضح في فصولها ملامح شخصيته العصامية الكارزمية وروحه المثابرة الحرة ونزوعه الى الصدق والاشتباك بالشأن العام وكذلك عشقه  للحياة والرحلات والاسفار والتعرف على العالم واستكشافه ، والاهتمام السابغ  بعائلته وأصدقائه وكل من حوله  تمتد حبال الود والصداقة بينه وبين الناس في روافد متعددة  متدفقة وتتوسع علاقاته وتزداد ولا ينتابها القطيعة والازورار ابدا  .

يقودنا صاحب السيرة علي الكواري بدراية وألفة خلال لوحة كاملة حية من النسيج الاجتماعي لاهل قطر وقيم المجتمع الصغير البسيط ( التجلد والنزاهة والبساطة والتكاتف والتضامن والتكافل ) و روح الجماعة المتجانسة المتماسكة ؛  تلك الروح الممزوجة بالصلابة والامل والتطلعات ، والتي كانت تسعى الى الاكتمال والترقي عبر التعلم والتجريب والتراكمية .





لقد خلبتني وأسرت قلبي نظرته العفوية المتحضرة للمرأة من حوله ؛ أختا وقريبة وجارة وشريكة وابنة وزميلة باعتبارها انسانة  في المقام الاول فقد كان ذكر المراة في فصول كتابه يعكس دائما احتراما وتثمينا فعليا للمرأة بلا تفاخر ولا تظاهر ولا ادعاء  .

هناك قطعاً تصاعد ملحوظ في التشويق في سرد الاحداث ، في الفصول المتتابعة ومرد ذلك الى احتدام الاحداث وطغيان المشاعر المختلطة من الاسى والتحسر والغضب التي تثيرها ملابسات الاحداث العامة التي فارت وماجت في عقد الستينيات.

 بعض الامور لا تغدو كلية جزءً من الماضي المنقضي ولا ينتهي تأثيرها النفسي والمادي على المؤلف (وعلى القراء كذلك ) وتتجلى آثار تلك الشؤون العامة من خلال انتقائية السرد وسخونة نبرته في المواضع المختلفة وذلك الجانب البحثي يبرز فطنة صاحب السيرة وسعة أفقه فالباحث د علي الكواري لا يقوم باستحضار مباشر للماضي بقدر ما يسعى بالاحرى الى اعادة بناء ما حدث باعتبار ما نحن عليه اليوم وما صرنا نعرفه عن انفسنا وعما حدث آنذاك ولذلك عندما يسرد الكواري ما عاصره وما شهده -  في سيرته – يعمد  بوعي وترصد وتوق الى الاصلاح  الى تقديم تحليل حصيف ووجهة نظر تنويرية لا تعوزها الفطنة ولا القرائن . 

يعيش الكواري دائما بين الناس ، يطوف بكل فئاتهم ويستوعب اختلافهم ، وهم موجودون بقوة  وجلاء في كل أنحاء فصول سيرته ، يملؤون فضاء المذكرات : زملاء ومدرسون وعمال وجيران واقارب وأصحاب ومعارف وشخصيات عامة وحتى عابرون ومؤقتون ولا نكاد نرى المؤلف ( صاحب السيرة ) الا  متفاعلا مع الناس منصهرا بهم منفتحا عليهم بل لا نكاد نراه الا من خلالهم فهو ابن الحي ، هو الجار والصديق و الطالب النجيب  والعامل المثابر الذي يحث الخطى ثم يعزم على استئناف الدراسة متأخرا الا انه يعدو متخطيا السنوات وثبا مستغرقا في هدفه وراغبا في اثبات تفوقه ونباهته الظاهرة الواضحة .


 لقد استمتعت بقراءة مذكرات الباحث الكبير علي خليفة والتي سجلها بقلم رشيق وقدم في فصولها شهادة موضوعية ودقيقة تؤرخ لاحداث واماكن واشخاص فضلا عن انها تجربة انسانية مؤثرة و فائقة الشفافية  .

يخجل المرء ويشعر بالرهبة والاجلال عندما يقف أمام صلابة مواقفه وثباتها لقد أظهرت صروف الايام معدنه النفيس وجلته كالالماس الصقيل فقد واجه – وحده - تحديات صعبة أبدى ازاءها تجملا وتجلدا عظيمين وفرض على نفسه دائما معايير عالية المنال سعى الى تلبيتها باعتبارها الاسلوب الامثل للحياة الكريمة والنفس الابية

 واجه علي الكواري أقبح وجوه الظلم والتعنت والعسف منذ مرحلة مبكرة من شبابه وتصدى لها بروح متحفزة الى الصمود والاستقلالية وثابر على التجاوز و التسامح وآلى على نفسه ان يكون دائما في المقدمة والاول في انشاء المبادرات الوطنية ورعايتها ولم يسع ابدا الى نيل التقدير الذي هو أهل له و اكثر الناس استحقاقا وجدارة به.

واجه علي خليفة التحديات مرارا والتف حولها ونجح في تجاوزها ولم تفت في عضده و روحه المقاتلة ؛ واجه الحظر الحكومي في اقتصاد ريعي تهيمن فيه السلطة على كل شي وتبتلعه  . اقام مشروعا تجاريا كان في حينها مغامرة جريئة غير مأمونة العاقبة و اصابت نجاحا بحسن ادارته وفطنته ثم قرر استكمال دراسته العليا على نفقته الخاصة  بالرغم من انه مقيد ومعزول . وفي كل مرة لم يبطىء الاستبعاد بعد كل انفراجة محدودة ولم يخطئه العقاب قط .  

ماذا يمكن أن يقال – باجمال- عن شخصية علي خليفة الكواري ؟

انه نموذج انساني رائع . نفس مرهفة تواقة الى الاصلاح  تعاف الظلم والفظاظة والتعصب والمداهنة . وسيرته ( العوسج ) هي – بحق - سيرة وطن

  

آمل أن تثير مذكرات الدكتور علي بن خليفة الكواري ما تستحقه من مناقشة و ردود افعال فذلك كله مفيد و ايجابي ، وأتوقع أن يعلو اولا اللغط التشنجي ويستغلظ عوده  وذلك على كل حال ما يحدث ، كلما حاول فرد استثنائي أن يكسر تابو أو يخرق جدار الصمت في نسق السائد الغالب .

 

ليست هناك تعليقات: