الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

دلال خليفة بين مجموعتين مسرحيتين

التوقع والحلم والضحك
في المجموعة المسرحية ( التفاحة تصرخ ..الخبز يتعرى )
للكاتبة دلال خليفة
نورة ال سعد
يوليو 2006

بين المجموعة المسرحية الأولى للكاتبة القطرية دلال خليفة والمعنونة
( انسان في حيز الوجود ) صدرت عام 1992 والمجموعة المسرحية التي صدرت حديثا عام 2005 بعنوان( التفاحة تصرخ ..الخبز يتعرى ) حوالي عشر سنوات حافلة بعطاء روائي متميز لهذه الكاتبة المسرحية.
لقد كانت المجموعة المسرحية الأولى للكاتبة تسير في ركاب الزمن المسيطر الذي يسطو على أحلام الإنسان ويتسلط على إرادته وحدود فعله  وينتهي بالإنسان مذعنا في نهاية المطاف كما حدث للسجين في مسرحية
( وجبة حساء ) حتى لو كان متمردا في بداية الأمر ويبدو الإنسان متفلسفا مفلتا من واقعه هائما مع أفكاره كما في مسرحية (انسان في حيز الوجود ) رغبة في الخروج من اسار الواقع الصارم وشروره وجموده بل ان الإنسان يحس بالعجز التام في مسرحية ( الرحلة ) لانه عندما يبحث عن الارض- الجنة التي يحلم بها يجد نفسه أسير كابوس لا يكاد يستطيع الافلات منه !
في المجموعة المسرحية الاولى للكاتبة لا يبدو أن ثمة أفقا قريبا لمن ينشد الحرية والارادة ويصبح الانسان فأرا في مصيدة بل يغدو كتلك الخنفساء التي رآها الفيلسوف في طفولته تحثها رغبتها في الحرية على الخروج من مأمنها لتقع بين ( براثن ) النمل القاتل فما كان من الصبي الا ان ضربها بحجر لتلبث آمنة ساكنة في بيتها الذي ابتناه لها .
أما في مجموعتها الجديدة فان الكاتبة تتجاوب مع الأجواء الجديدة  المبشرة بآفاق من الانفراج وتحلحل الأوضاع وانفساح الاشواق والرؤى  يتجلى ذلك في نصوصها المسرحية الجديد ة التي هيمنت عليها روح المفارقات والانكشافات والانفتاح على الآتي فهي ترتكز أساسا على جدل الأزمنة مع إرادة الإنسان ومخاوفه وهي تمثل بلا شك تقاطع الطرق وتحولات الذات والرغبة في ملامسة المستقبل .
تتميز المجموعة الجديدة بحيوية ومغامرة وإيقاع مختلف وتبدو اقل تجريدية وارتهانا بالأفكار من المجموعة الاولى بل انها حتما اكثر تطورا ونماء وتعصف بشخوص مسرحياتها احاسيس القلق والتوجس وتتفجر رغباتها ومخاوفها وينكشف ماضيها وتتصاعد وتيرة الموقف حتى ينجلي عن معرفة وآلام .. آلام التحول .
لقد هيمنت على المجموعة المسرحية الأولى مسحة تأملية ومضت الأحداث في تعاقب خطي مذعنة لتراتبية قيمية ونفسية وفنية عكست سطوة الزمن الماضي وتضخمه واستبداده بحاضر الشخوص فقد كان الزمن متشكلا ابديا منتهيا في وعي الشخوص ومصائرها وفي بنية المسرحيات ومعمارها الفني وحتى نهاياتها النمطية المغلقة المحبطة
فلا غرو أن عبرت الكاتبة في المجموعة الأولى على نحو مشهود البراعة عن الزمن المسيطر الذي يحكم قبضته على الأوضاع العامة ثم جاءت المجموعة الجديدة لتنبىء عن متغيرات نفسية وسلوكية وفكرية مرتبطة ارتباطا لا ينفصل عن الوقائع الجديدة والآمال الموصولة بها .

تفتح دلال خليفة مجالا أوسع للأسئلة المتمحورة حول موضوعة الزمن في مجموعتها المسرحية الجديدة وتنقلنا الكاتبة إلى مستويات تجعلنا في مواجهة فكرية ونفسية وفنية مع معطياتها وإمكاناتها ومستحيلاتها . ان الزمن الخارجي يداهمنا من لحظة الميلاد حتى موعد الموت وبين المحطتين تكمن اختيارات خرقاء وأخرى صائبة وعمل صالح خلط بآخر سيىء ! وشخصية الإنسان تنمو عبر الزمن وشروطه ومحفزاته ومثبطاته لان الأحداث هي صيرورة الزمن والمدة الزمنية هي مادة الحدث وشكله وطبيعته أما الإنسان فأين هو في مسرح دلال خليفة ؟
ربما رأته الكاتبة من منظور تهكمي بيذقا في لعبة شطرنج يتشكل بفعل القوى الخارجية كأعضاء النادي في مسرحية ( النادي ) وربما رأته ذاتا متفلتة متوثبة كصورة الفنان الذي يريد أن يؤطر الزمن ويحكم أساره داخل رسم في صندوق بيد أن إبداعه يصطدم بسيلان الزمن وحركته وتثميناته أو ربما رأته الكاتبة شخصا يستنزف إنسانيته ويمسخها مسخا بتعذيب الآخرين حتى لا يعود هو نفسه إنسانا البته .
إن الماضي لا ينقضي أبدا وإنما يعيد إنتاج نفسه عبر الذاكرة وفي وعي الذات وردود أفعالها ومواقفها المطبوعة بالحكمة والتجربة والأحكام السابقة وبرغم أن الماضي مستقل تماما عن الذات إلا أنه يستبطنها ويرتبط بحركتها الداخلية والموضوعية و يزاحم الحاضر ويعيش على حسابه لان ثمة مزاوجة عقلية بين العقل وبين الزمن أما الحاضر فانه لا يخلي مكانه طوعا للماضي الكلي المكتمل بل يتحول إلى ساعة تنبض باستمرار بينما رقاصها ينوس متأرجحا بين اتجاهين بين تراكمات الماضي وتخوم المستقبل المأمول بين ما كنا عليه يوما وما نود أن نكونه في يوم آخر وحينئذ يتحول الحاضر إلى محض دوافع ومحفزات خارجية طارئة عرضية تبعث الذكريات والخبرات والتجارب المنسية والمدفونة وتسمح لها بالظهور والتمدد والانبعاث فلا تكاد توجد وجهة نظر ولا معرفة ولا خبرة لا ترتبط بتفاصيل من الماضي وحتى عندما يواجه المرء أحداثا أو مواقف بعينها فانه يقف وجها لوجه مع الزمن لا باعتباره نهرا متدفقا جاريا ولكن بوجوده الكلي المكتمل .
ولكن ماذا تعلن مسرحيات دلال خليفة الأربع فيما يخص الوعي بالزمن وماهيته وتأثيره ؟
ان الشخصيتين الأولى والأخرى في مسرحية (التفاحة تصرخ والخبز يتعرى ) لا تستطيعان الهرب مما كانتاه في ماضيهما لأنه حقيقتهما .
وفي مسرحية ( اشياء فوق بنفسجية ) يحاول الرسام ان يوقف الزمن في رسوماته التي استخدم فيها مادة مراوغة هي الرمل !! وفي مسرحية ( فقط ارفع انفك ) تبقى النازية مفهوما وقيما تتجاوز الزمن لأنها تفلح في ابتكار وسائل وآليات وأقنعة متفوقة تخترق العصر وتنفذ إلى مبادئه الصورية المترهلة  وفي مسرحية (النادي ) تتبدى مأساة المرأة كما عبر عنها رئيس النادي أنها معركة مع الزمن لاستعادة حلم مستحيل
إن المشهد المسرحي لدى الكاتبة يعي ديمومة الحاضر بوصفها امتدادا وتوغلا للماضي في أغلفة الحاضر ثم تأتي اللحظة الانقلابية لتكشف لنا تحولا أو تنير لنا حقيقة مغيبة ولكنها تنقلنا بلا شك إلى زمن قادم غير مرئي لكنه متطور ومتقدم على اللحظة التي سبقت ذلك الكشف الموجع والمذهل معا ! ولا يمكن ان يستمر الحال بعدها على ما كان عليه قبل تلك الانكشافة المزلزلة.. فأي غفران يرتجى بعد تلك المعرفة ؟!
قد نظن لبعض الوقت أن دلال خليفة تنحاز تماما للماضي فهو زمن ممتد ونام وباق ومؤثر على نحو غير محدود فهو زمن يساكن الحاضر ويستحوذ عليه والشخوص في المسرحيات الأربع تعيش عالة على الزمن الماضي لأنه الزمن الموجود بآثاره وقيمه . أليس من المفارقة أن تستحضر روح نازي قديم من الماضي لكي يكشف لهؤلاء النازيين الجدد الأغرار أن العنصرية والشوفينية والاستئصالية اليوم أقوى عريكة وأكثر مراسا مما سبق ؟ أليس من العجب أن يلجأ الرسام لكي يمسك بتلابيب الزمن فيؤبد الإحساس والأحداث الى اختيار مادة فانية سريعة التأثر وغير مثمنة مثل الرمال ولذلك لم يسع الضابط أن يسجل في موضوع السرقة سوى فقدان صندوق به قدر من الرمال فحسب ! وقد يكون ذلك بحق تثمينا خاطئا للفن وقيمته بيد أن الفنان بنى لنفسه تقديرا متعسفا للزمن أما المرأة التي فقدت أمومتها طوعا فلن تستعيدها أبدا إلا من طريق الحلم لا الأمل ومن طريق التعويض لا الاسترجاع
لا شك أن الكاتبة دلال خليفة قد وقعت على الجنس المسرحي تحيناً للمعالجة الدرامية لان إشكالية الزمن في إطارها التجريدي والنفسي تتجلى بأكبر قدر في المواقف الدرامية والحوارات ووجهات النظر وفي التحولات الانقلابية وكل تلك معطيات درامية في أصلها ومبناها .
وتلك الإشعاعات الفكرية والشحنات النفسية حملتنا على ان نعيش كل مسرحية بوصفها حاضرا في زمن القراءة ( وكذلك في حال مسرحتها على الخشبة ) الأمر الذي يجعل من الشخصية تعيش في كل مرة في المسرحيات الأربع في أجواء الحيرة والحسرة ذاتها بحيث أنها لا تنمو أبدا مع الزمن ولكن تنكشف وتسقط قناعها فهل يعد ذلك استمرارية أم تقييدا للزمن ؟؟
ربما كانت الكاتبة تومئ إلى أن الإنسان قادر على أن يخترق حدود المستحيلات لأنه الموجود الحي الوحيد الذي يعيش بإرادة ومسئولية وذاكرة تنفسح على أزمنة ثلاثة معا .
 حقا ان الإنسان هو الموجود الحي الوحيد القادر على التوقع والحلم والضحك وبهذه الأفعال الخارقة يستطيع ان يبني وجودا فنيا راقيا باقيا خاليا من الزمن ولكنه يدل عليه. والمسرح نفسه جنس زمني والدراما المسرحية اكثر الأشكال الأدبية تعبيرا عن الحاضر التخييلي والإيهام بسيره الى الأمام حيث تنتفي في الخطاب المسرحي الاسترجاعات الزمنية  الا فيما يخص الإخبار عن زمن مضى وأحداث خلت من خلال حوارات الشخوص التي تعبر في نهاية المطاف عن حركة حاضرة تتزامن مع قراءة النص أو رؤيته ممثلا على خشبة المسرح .
اذن هو الحاضر دائما وان تخلله الماضي وارتهن بآثاره .ولذلك لم تكن الكاتبة بحاجة الى تصوير الشخوص للكشف عن مضامين هذا الصراع وانما لجأت الى إبراز وجهات نظرهم والمتغيرات النفسية التي تعكس وعيهم بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل ولذلك كانت المسرحيات الأربع مشدودة الى لحظة الانكشاف التي أبطلت مبدأ السببية والمنطقية وأحلت محلها رؤية مكثفة وكاشفة لعلاقات أو حدث أو حقائق أو صيرورة زمنية .
ان دلال خليفة لا تتوغل في إشكالية الصراع بين الأزمنة ولكنها تعرض المسالة في جوهرها متشكلة في قالب درامي يستلهم حركة الشخوص وتصاعد الحدث منسوجة برؤية توظف فلسفة الضحك من خلال روح السخرية والمفارقات والجناس اللفظي والذهني التي تصل في المجموعة الى مستوى عال من الفانتازيا السحرية فالتفاحة تصرخ والخبز يتعرى والرسام يسعى لتأبيد الزمن باستخدام الرمال وهناك امراة تظن انها أجدر من الآخرين في عالم الحلم  لانها تتحدى الزمن !!وهناك مجموعة من النازيين الجدد غير الخلصاء يتعصبون للجنس الآري الألماني النقي !!
من المؤكد أن دلال خليفة تعطي الزمن مكانا محوريا في مسرحياته الاربع وهي لا تلبسه مسحة فلسفية قاتمة في حوارات الشخوص أو موضوعات المسرحيات وانما تجعله مغزى عاما يتغلغل في جوهر طرحها ولب سخريتها والتركيب الشكلي والفحوى المضمونية لكل مسرحية بحيث يتصعد الموقف مثل كرة الثلج التي تتضخم تدريجيا ثم ترتطم بحائط المواجهة والتعرية فتتناثر شظاياها في كل مكان . هل يستطيع الإنسان ان يرى نفسه على حقيقتها حتى لو نظر في مرآة ؟ هل يستطيع الانسان ان يعيد تشكيل وجوده والسيطرة على عالمه؟ الى أي مدى ينجح الفنان في ان يبدع فنا مستقلا عن الواقع ؟ هل يستطيع الانسان ان يتحرر من الماضي وينقطع عن جذوره ويثب الى المستقبل بلا أغلال ؟ هل يتقدم الزمن حقا ؟ وهل انتصرت مفاهيم التقدم العلمي وهل أصلحت الانجازات العلمية من حال البشرية ومصائر البشر ؟ هل تنتصر ديناميكية الزمن أم اننا لا نزال نلوب في دوائر الجهل والفقر والتخلف والتمييز والعنصرية وظروف الاسترقاق البشري ؟
لم توغل الكاتبة بعيدا في نظرتها الفلسفية ووعيها بالزمن كعامل فيزيائي  مجرد ولكنها تبنت المنظور الإنساني والاجتماعي واستشعرت الزمن بوصفه عنصرا فنيا ومدركا اجتماعيا وحالة شعورية وذاكرة فردية وجمعية . ان السؤال الأكثر إلحاحا هو أي زمن يعيشه كل منا ؟ الماضي الذي يداهمنا ويزحم حياتنا وأحكامنا أم الحاضر الذي يمر قلقا متفلتا أم تلك الخيالات و الآمال المعلقة بمستقبل مظنون  ؟
وهل تستطيع الذات التأثير في الزمن الموضوعي ؟ لقد استطاع الإنسان في العالم المتقدم ان يختصر الزمن جهدا ووقتا لتضخيم منافع مادية عبر وسائل الاتصال والمواصلات المتطورة في الارض والفضاء وعبر الكشوفات العلمية وتطبيقاتها في كل مجال ولكن هل استطاع الانسان استغلال زمنه لصالح الإنسانية ولصالح الغد الأفضل للبشرية ونحو التثمين الصحيح للأشياء والأفكار والأحداث ؟
برغم أن الكشف والمفارقة والتحول هي إضاءة لحقيقة الحاضر وخلخلة لقواعد الماضي وأوضاعه السائدة إلا أنها أقتت للاسف في النهاية تماما ولذلك أبطل مفعولها فلم تنتج أي فعل ايجابي أو تحول ظاهر أو حركة مغايرة .
هل أرادت الكاتبة أن تقول ان الانسان في الدوائر الثقافية والاجتماعية منغلق على نفسه غير قادر على محاورة الماضي وغير مؤهل لبناء جسور مع حاضر مفتوح على مستقبل لأن الحاضر اصبح مرتهنا للتخلف والتناقضات ومصادرة الحريات وللتقييم الفاسد والمزايدات والفوضى ؟
هل أرادت الكاتبة أن تقول انه أوان مواجهة الذات بصدق وتحد ومغامرة لغربلة الماضي وتصفيته ومحاورة الحاضر والتشغيب عليه ؟ هل أرادت الكاتبة أن تقول أن المستقبل لن يتحقق إلا بالمواجهة والكشف والانعطاف إلى الأمس مراجعة ومواجهة لان الإنسان أذا أراد العدالة والحرية والذاتية الخاصة عليه أن يساهم في صنعها ولن يتحقق له ذلك دون إسهام ومغامرة وتضحيات وان الإنسان ليس له إلا أن يختار في المنعطفات التاريخية بين الحركة والنمو والتحقق أو اللجوء إلى السلامة والانعزال والتقنفذ .
ان مجموعة دلال خليفة المسرحية هي انحياز للفن والأدب باعتبارهما وجودا مستقلا نهائيا يجادل الماضي ويرهص بالمستقبل لكنه يمثل الحاضر فحسب . ان دلال خليفة تنتصر للحاضر المتغير المستمر وتؤطره في أعمال إبداعية تستند الى دراما جسدية وذاكرة نفسية وذوات واعية وأسئلة مزمنة ولحظات كشفية تستجلي مكنونات النفوس ومخاوفها . ان دلال خليفة تنتصر للإنسان لانها تراه متحولا متغيرا متوافقا متناقضا متحركا متواطئا مراوغا بين الموضوعي والذاتي بين العدم والاستمرارية بين الأوضاع القهرية وأشواق الناس الى الحرية والتغيير .

إن دلال خليفة في مجموعتها المسرحية الحديثة لن تأخذ بيدك الى حيث الأجوبة السهلة بل سترمي بك فورا في أتون الأسئلة فحسب !    

 

ليست هناك تعليقات: