الثلاثاء، 17 أبريل 2012

قراءة في رواية "بروكلين هايتس" لميرال الطحاوي



بقلم نورة ال سعد
أي النساء تلك التي لن تقول كما جاء في الفقرة المقتبسة التي قدمت بها الكاتبة روايتها " ها أنا ذا امرأة وحيدة على عتبات فصل البرد " اقتباسا من فروغ فرخزاد وهي من اشهر الشاعرات الايرانيات.

لقد كانت هند الشخصية الرئيسة في رواية ميرال الطحاوي امرأة مغتربة في الزمان وليس في المكان فحسب ! والمفارقة ان هندا كانت تريد ان تكتب نصها الاول بعنوان " لا اشبه احدا " ولكنها كانت تشبه كل النساء بل كانت تشبه أمها اكثر مما كانت تتصور !





قسمت الروائية الطحاوي روايتها بروكلين هايتس الى اثني عشر فصلا جاء اغلبها باسماء اماكن( فلات بوش باي ريدج المقبرة الخضراء ويندسور تراس كوكو بار الخ ) بينما جاءت ثلاثة عناوين فقط مغايرة هي ( تانجو – بلوتو في برج الجدي – فصل البرد )
في بروكلين هايتس تنمو الاحياء والحارات ، تتجاور لتفترق وتتقاطع لتضم بشرا او تلفظهم ؛ بشر جاؤوا من اماكن بعيدة ومتفرقة دون ان يتخلوا عن ثقافة المنشأ وانتماءاته بل ذهبوا يستغرقون ويستحضرون الذكريات من خلال حنين الاغتراب وتلمس التناظر والدفء داخل الكانتونات في مجتمع العزلة والتشيؤ والانشطار والحلم الامريكي المؤجل، يترددون على شوارع ومقاه و ويتجولون في ازقة تحيط بها مبان معهودة كمركز كبار السن ومركز التاهيل العقلي والبدني ومكتب الاعانات الاسرية واعانات البطالة والتشرد.

سوف نجد في هذه الرواية صورتي الاب والام تمعنان في الظهور مجددا كما تظهران في كل روايات ميرال الطحاوي الاخرى (الباذنجانة الزرقاء – الخباء – نقرات الظباء ) لا تقحمهما الكاتبة ولا تبدوان مكررتين بقدر ما تبدوان صورتين ناصعتين ومحفورتين في وجدان الكاتبة تتجددان مع كل سرد ، وتنسجمان في كل رواية مع البرواز الفني المختلف .
تتبدى الثيمة الرئيسية في روايات الطحاوي في مسالة الطفولة (المعلقة) للشخصية الانثوية الرئيسية ؛ طفولة نستشعرها بمثابة العاهة الملازمة( هي ذات منشا خَلقي بيد ان لها علاقة وطيدة بالتنشئة كذلك وتظهر صورة الاب بمثابة (الارتهان للعظمة المزيفة ) وصورة الام في حالة ( النزق والرثاء الابدي للذات ) وذلك أمر يستحق دراسة خاصة في حد ذاته.


عندما تغادر هند الى امريكا تكون قد حدثت نفسها مرارا وطويلا باحلام السفر وعندما تهاجر الى امريكا تفعل ذلك لكي تتوغل عائدة الى مسقط راسها والى ذكرياتها ... والى الوراء ؛ الى تلال فرعون ووسية العرب والغرابوة والايام البيضا والسودا وتتقاطع الاماكن والاحداث والشخصيات بهدوء بين هنا وهناك بين بروكلين هايتس وتلال فرعون وما حولها (الفرن والجرن والمدرسة والقرية وسوق الجمعة وخيام الغجر ومن يسكنها من بشر )
المدهش ان ميرال الطحاوي تقدم شخصيات مهاجرة وتعرض لجنسيات واديان والوان واعراق مختلفة بدون اي ظلال من عنصرية او تمييز او تقييم مسبق. يبدو العالم في عيون هند خليطا مريجا من البشر ( روس واسبان ولاتين ومكسيكيين والطليان وافغان وبوسنويين وصينيين وعرب من اليمن وفلسطين وبيروت والقاهرة )
ويعد الفصل الاول مدخلا تتجمع فيه الخيوط ثم (تنفلش) وتتناثر الحبات بانتظام معقد ويبدأ الفصل الاول عندما تجد هند شقة ، موقعها يتعامد على (فلات بوش) مع (الافنيو السابع) وتجاور حديقة كبيرة ، الموقع في قلب منطقة قديمة في (بروكلين) تسمى (بارك سلوب ) و " تبحث عن معنى سلوب في القاموس فتجدها حافة او جرف المعنى مكان منحدر . تتاكد انها في المكان المناسب لحالتها النفسية " ص 8
ومنذ الفصل الاول تستدعي هند – عبر تداعيات وعيها - امها واباها وتلال فرعون كما ستذكر أسماء شخصيات مهاجرة ثم ستأتي على ذكرها تفصيلا وتنجيما في الفصول التالية (مثل فاطيما من مالي واميليا من الاتحاد السوفييتي سابقا وسعيد قبطي مصري الخ) وينتهي الفصل الاول بحوار موح وذي معنى مرتبط بنهاية الفصل الاخير حيث تحاور هند ولدها :
" - لكن انا مش عايزك تعجزي
-....
- ولا تموتي
- حاضر . " ص 28
عبر تداعي وعيها تنتقل هند من مكان الى اخر ومن خانة الى اخرى ينتقل وعيها وحده بحرية بين هند /الطفلة وهند / الشابة و هند على ابواب الاكتهال (الاربعين ) .. وهند في مواجهة الموت / الفناء .
وتقوم الرواية على قواعد لعبة الحجلة – ان جاز التعبير –لان هندا تقفز بين المربعات المرسومة على خارطة حركتها الفيزيقية والنفسية في تداع ذهني / سردي شبه منظم ينسج شبكة من العلاقات والتصعيد النفسي في عالم مفتوح فنحن لا نرى هندا بل نرى بالاحرى ما تراه هند وما تعرفه عن العالم.
تستخدم الكاتبة سرد مرتخ منساب بليونة تحسنه الطحاوي وتمارسه بعفوية ومراس حتى ان القارىء لا يفيق من سحر " الانسيابية" بسبب الخيال المحكم والتداعي الحر الممتنع . سرد رشيق يتحدث ببساطة متناهية وانتقالات هينة لينة لا تزعج القارىء ولا تبغته. سرد ممعن في الانتقائية والاصرار بالرغم من انه في الحقيقة تداعيات ( من فكرة الى اخرى قريبة أو تالية، ملضومة معا بخيط رفيع جدا ) تتحدث الكاتبة عن أمور يومية اعتيادية وشديدة الحميمية تسبغ عليها معنى انسانيا عارما عندما نشاطر هند مخاوفها ونوازعها ..وتجاربها .
هي امور تحدث بلا جلبة في الحياة ، امور تمضي كالسنن الطبيعية ولا ترى فيها هند ذاتها ابهارا ولا ترى حكمة من وقوعها بل تعلق عليها بانها" سنة الحياة ".
وهي مع ذلك امور تربط الناس بالاماكن وتربطهم بعضهم ببعض وتجعلهم اشباها ومتساوين واكثر ضعفا وانسانية، تصبح هند قريبة الشبه بليليت وتصير الجدة زينب مناظرة لاميليا ومن كان ليتصور ذلك ! ( اميليا مهاجرة من الاتحاد السوفييتي تجالس هندا امام متجر الطعام في الافنيو الرابع وتتبادلان بضع كلمات وكوبونات الطعام وقصاصات الانشطة المجانية ثم تصمتان والجدة زينب البحراوية كانت تعمل في بيت ابيها وهي تخاوي جنية تتلبسها تحدثها الجدة زينب اكثر مما تتحدث مع من حولها من الانس.)
تسرد الراوية /الكاتبة تفاصيل كثيرة مما تراه هند وتعلمه وتشعر به وتستذكره وما يحدث لها و تتجمع تلك التفاصيل وتتواشج وتتصعد قدما لتقدم لنا (حياة) هند التي تبدو الان مجرد شخص على دكة الانتظار والترقب .
تجعل هند من تلك الحركة في محيطها الجغرافي الضيق حركة في فضاء اوسع برغم انها لا تخرج عن نطاق التفاصيل العادية كالنوم في سريرها تصيخ السمع لحركة جارها الذي كان يسكن فوقها بالضبط او حركة الجارة التي تسكن تحتها او مجالسة اميليا دون ان تتحدثا كثيرا او اصطحاب ابنها الى مدرسته .
وعبر تلك الاماكن التي تعبر عنها عناوين الفصول : جسر بروكلين وبروسبكت بارك والافنيو السابع الخ نصل الى الفصل الاخير بعنوان (فصل البرد) وفيه تعود هند ادراجها الى شقتها في (بارك سلوب) حيث تختبىء تحت الملاءة وتعود اليها ذكرى الارانب في الجرن القديم حيث " تخرج الارانب من الجحور .. تطل الارانب من الجحور – كما يعتقد العجائز – على الموتى وتسرح في انفاق المقابر وتتوالد بين الموت والحياة " ص 275 . وتتضح ايحائية تلك الفقرة الختامية عندما ندرك ان هندا عادت في نهاية الرواية ؛ نهاية رحلتها الفيزيقية والوجودية الى حيث كانت هند الطفلة التي هربت من الجدة زينب واختبأت في الجرن ووجدت نفسها في الموقف القدري نفسه عاجزة عن مقارعة ما هو " سنة الحياة " وسيرورتها وتدفقها ..ودائريتها . أي كل ما هو مخيف وكل ما هو غير قابل للتفسير وكل ما هو غير قابل للتنبؤ والسيطرة وتبلل هند فراشها كما بللت هند الطفلة سروالها لان ذلك ايضا "سنة الحياة" ولانها مهما هربت الى اخر الدنيا فانها ستظل في نهاية المطاف وفي مواجهة الموت- كما هي في مواجهة الحياة تماما -مجرد ..امراة عارية بردانة .
لا تستغرق الكاتبة ميرال الطحاوي ولا تُغرق هندا في امواج البعد الوجودي او السيكولوجي ولا حتى السيوسيولوجي ولكنها لا تغفلها جميعا . سوف نجد انفسنا مرارا نتقابل ونتناظر مع هند الانسانة التي تاهت ملامحها في ملامح كل الغرباء حولها حتى اعتقد المارة في الافنيو السابع بانها يهودية مشرقية واعتبرها اللاتينيون -نظرا لامتلائها- من الهسبانك ويسألها الهنود بسبب خمريتها وكحلها كلما جاورتهم : كشميري ؟ ومع ذلك تحمل هند ملامح تخصها وحدها.
ومن المدهش ايضا ان الشخصيات التي ترافق طفولة هند وصباها وفتوتها تعاود الظهور في فصول الرواية وكلما ظهرت ازددنا معرفة بهند من خلال ذكرياتها عن الاخرين فكانما تعكس تلك الشخصيات ضؤوها على مصير هند ذاتها ، هند التي تبدو متوارية بوصفها العين التي ترى كل شي وتتذكره وتشعر به فالراوي /الكاتبة تعتمد في سردها على ( منظور) هند ومشاعرها واقوالها المتضمنة في النص بدون اقتباس او تنصيص ومع ذلك فان الرواية كما اسلفنا ليست عن هند بل عن العالم الذي تعيش فيه هند ونعيش فيه ايضا
وتكرر هند مقولة "سنة الحياة" في كل منعطفات حياتها وكأن هناك ثمة ارتهان جبري الى مدار فلكي. يقول الراوي/ الكاتبة :" تصادف ان تراجعت ثلاثة كواكب فلكيا هذا الربيع .. فاهتزت الارض من تلك الحركة العنيفة .. تعجب الناس كيف ان كل ما تركوه وراءهم من ذكريات بعيدة صار امامهم فجأة " ص 265
بامكان هند الا تقبل السنن حتى لو اخضعت لها واقعيا لكن سيكون من المتاح لها ولجميع المستعدين للمغامرة والتمرد وتسلق الاشجار ( كما تفعل هند الطفلة ) سيكون متاحا دائما ان نتأذى وان نرفض .. وان نهرب الى اخر العالم .. حتى ونحن نعلم يقينا بان" سنة الحياة" ستواجهنا هناك ايضا
ويظل الرسيس ناعما في تلك التداعيات الحرة ولكنه يوجه الى معنى ظاهر او شعور طاغ يحكم حركة وعي هند في تلك التداعيات ويميز كل فصل من الفصول ويسمه بوحدة شعورية او موضوعية معينة وكل فصل يقود الى الفصل الآخر في تداع منظم لحركة هند في بروكلين هايتس.
وفي الفصل رقم ( 9) والمعنون (بلوتو في برج الجدي) تتراجع الكواكب في دورتها الفلكية وسرعان ما ينكشف لنا في الفصل الاخير ( فصل البرد ) ما مهدت له الفصول الماضية فقد جاءت الخاتمة في موت ليليت التي عرضت اغراضها الشخصية - بعد موتها- على قارعة الطريق على رصيف الافنيو السابع مع لافتة تقول "خذني لو اردت " لكي يلتقط منها المارة ما يشاؤون (اغراضها من خطابات وصور وملابس وارواب نوم واحذية واسطوانات ولوحات واغطية ووسائد وملاءات وشعر مستعار ومساحيق وحتى ورق قديم كتبت عليها مذكرات شخصية !!)
ترتاع هند من تلك النهاية وتقرأ مذكرات ليليت فتقول لاميليا " اشعر انني اعرف هذه الاوراق ..وانني كتبت كل كلمة فيها " ص 273
رأت هند خاتمتها في خاتمة ليليت ؛ موت في الغربة واستباحة لكل متعلقاتها الشخصية على عرض الطريق امام الغرباء الزاهدين في اقتنائها ، فتهرب لائذة بفراشها وتختبىء تحت ملاءتها . هل يمكن الهروب من "سنة الحياة" ؟ الحياة التي لم تعرف منها هند الا سننها الجبرية العبثية .
كما في لعبة الحجلة التي تلعبها البنات تستدبر هند المربعات المرسومة خلفها على الارض وتضع الحجر الصغير على راسها ثم ترميه الى الوراء ويجب ان يسقط الحجر داخل مربع ثم عليها ان تحجل بين المربعات وهي تركل الحجر من مربع الى مربع ومن خانة الى اخرى ومن شخصية الى اخرى ومن دور الى آخر ومن مقارنة الى اخرى ومن موضوع الى اخر تتنقل هند في تهويم نفسي قلق بيد انه انتقائي وذكي .
ومثلما كانت هند لا تتفوق في اللعبة مثل رفيقتها فانها تنتظر دورها طويلا في اللعبة .. وكذلك في الحياة ! انها تشعر بان" حياتها لم تكن حقيقية على الاطلاق ص 249 ربما لانها كانت " بطبيعتها غير مهيأة لادوار البطولة .. لانها اختارت ذلك فهي حريصة على حصد التعاطف وتمثيل دور الضحية طوال الوقت " ص248
لقد كانت هند " تبحث عمن يصدق ان لديها وجودا حقيقيا "ص 186
ولكنها " كانت تحب الرجل ذاته او تبحث عن شبيهه تسكب مشاعرها دفعة واحدة بلا حيطة ولا حذر " ص 120 وكان ذلك الرجل بالذات على صورة ابيها .
لاغرو ان هندا وهي صغيرة كانت تختبىء " تحت فراشها ليبحثوا عنها ويصبح لوجودها معنى " ص 195ولذلك هاجرت هند الى امريكا لكي يبحث عنها احد ما ويصبح لوجودها معنى عندما تغيب عن بروازها الاصلي ؟ او ربما ارادت فقط " ان تشعر بتعاسة ان تكون وحيدة ومهملة وبلا قيمة " ص 198
لقد كانت هند " تحب ان تفسر حياتها بهذه الطريقة لتجد لها معنى فكل ما حدث وسيحدث هو دورة فلكية مكتوبة على الجبين "ص 187

ليست هناك تعليقات: