الثلاثاء، 12 يناير 2021

الذاكرة .. مكان

 

نورة ال سعد

        يذكر الفنان فرج دهام في ورقة عنوانها ( الهدم والبناء في مدينة الدوحة) نشرت في موقع د علي بن خليفة الكواري ، بأن هناك حالة معمارية جديدة قد طرأت  تمحو الاولى فيما يدعى ( التدمير الخلاق ) وان الهدم أصبح الحركة الاكثر حضورا وبروزا ووضوحا وسرعة في السنوات الأخيرة  وكأنه اندفاع محموم و حثيث لإزالة القديم من الطريق. وتناول دهام في ورقته مسألة تحول المكان الى وظيفة ، وهي احتواء الفئات المستهدفة من المقيمين والوافدين والسياح وارتباط ذلك بمفاهيم تحديث التقاليد وتحديث المجتمع وأشار الى المفارقة في ( مقاربة معمارية في سوق واقف من حيث الشكل بتوليف تخيلي، ليس له حضور سابق يمكن الرجوع اليه  )

ولعله يشير هنا الى طبيعة عملية الصيانة وما رافقها من تغيير واضافة  تفصيلات واستخدام مواد غيرت واجهة المباني ولونها والاحساس بها وفبركت واجهة من الشبابيك والسلالم الاكسسوارية التي ألحقت بسوق واقف ولم تكن موجودة أصلا وليس لها أي وظيفة حقيقة وهي كذلك بلا قيمة عاطفية ! مجرد واجهة وشكل  سياحي ليس الا .

 

من المؤسف أن ينطوي التعاطي عموما مع المباني التاريخية على عبث في المكان وتغييره وينصب الاهتمام على تعتيق المكان بما يسبغ عليه ايحاء التقادم وتجري اعادة تصميم المكان بحسب مقتضيات الترويج لخدمات الفندقة والمطاعم وإيجاد واجهات الفرجة السياحية وتوظيف الصورة النمطية للتراث لتسويق الاحتفالات والفعاليات الموسمية .

 لقد شهدنا إزالة الاحياء القديمة بالكامل في وسط المدينة القديمة ؛ في البدع والمرقاب والرفاع والجسرة ومشيرب وأم غويلينة والسلطة وغيرها ! تعرضت جميعا لاجتثاث كامل !!

لا أعلم أي تخطيط أو عشوائية ، ترتيب أو ارتباك تتبعها انشعابات المدينة التي لم تزل ( ورشة كبرى ) تتعرض للاقحامات والمشاريع وبناء جسور وأنفاق ومحطات ميترو الخ ولم تزل المناطق والاحياء والفرجان تضيق وتشيخ وتموت بسرعة خلال عقدين أو ثلاثة وينتقل الناس منها ويغيرون منازلهم في كل مرة ويبدؤون من جديد!



ولطالما كان التنقل سمة حياة اهل قطر ، وقد تنقلنا خلال سنوات طفولتي اكثر من عشرين مرة ننتقل من المكان ونعود اليه في محيط المرقاب وام غويلينة والرفاع والسلطة الا ان ان المكان غدا لاحقا مؤقتا وهامشيا وخاليا من أهله فعلى سبيل المثال ثمة مناطق جرى فيها بناء أول مساكن شعبية مثل المنصورة ونجمة  في مطلع السبعينيات ، وبنيت مدينة خليفة في مطلع الثمانينيات بشماليها وجنوبيها حتى تمددت الى غزة وابتلعتها ( وغزة اسم حي بين الغرافة والريان ) بينما خرجت أغلب العائلات القطرية من الريان القديم في منتصف السبعينيات وجرى توزيع أراضي لكل عائلة أو فخيذة كل على حدة ، على تخوم الريان أو ابعد منها كما خرج أهل المرقاب بعد القص والتثمينات . ومعظم تلك المناطق الجديدة التي انتقل اليها القطريون سرعان ما ضاقت بأهلها وتحولت بعد عقدين تقريبا الى عشوائيات مزدحمة ومبان آيلة للسقوط  وارتحل عنها الكثير من قاطنيها من القطريين الذين سكنوها في اول عهدها  ( مثل مدينة خليفة الشمالية وابن عمران والهتمي وغيرها  ) .

أتوقع أن يستمر ديدن التنقل والارتحال بوتائر متفاوتة ، فأكثر المناطق مهما كانت جديدة ومرموقة تشيخ بسرعة وتتعرض مبانيها لضغوط انشائية كاضافة طابق وبناء ملاحق  ويطبق عليها الزحام وتعلق في مشروعات (اشغال ) ويغادرها القطريون عاجلا أو آجلا.  وعلى الاغلب سوف تتمدد خارطة سكنى نسبة كبيرة من القطريين ، شمالا او جنوبا بحسب تخطيط الأراضي الحكومية. 

نشرت دوحة نيوز في عام 2014  تقريرا عن اعمال حفر وتنقيب  قرب أسواق الدوحة ، جنوبي مركز فنار الثقافي الإسلامي حيث وجدت حوائط وأساسات ومواد وأدوات منزلية يعود تاريخها إلى منتصف القرن 19 وقد منح فريق التنقيب شهرا ونصف لاكمال عملهم قبل تسليم الموقع لتنفيذ محطة مترو سوق واقف الا ان النجاح في العمل دفعهم إلى طلب تمديد لشهر اخر وأكد ساكال رئيس الفريق بأنهم يحاولون معرفة المزيد عن الحياة اليومية لسكان المدينة الأوائل بدءاً من : متى تأسست الدوحة ؟ وكيف عاش أولئك الناس ؟ وقال :"نحن لا نحفر عن أشياء نحن نحفر لإنقاذ أدلة التاريخ نريد أن نستخرج قطع اللغز" لانها على حد تعبيره " بمجرد ان تضيع ، فسوف تضيع الى الابد " .

لقد كنا قرى على الساحل ، مجتمعات شفوية بسيطة ، تجمعات صغيرة شبه مغلقة تمارس ذاكرتها الحية وتعيشها يوميا وتزاول حياتها وتورثها للخلف ولا تعاني أي تأزم او خوف او عجز. ثم انتهت مرجعية الحياة التقليدية وحضورها المادي وكل متعلقاتها واساليبها ووظائفها وطرق البشر الذين اقاموا فيها .. ولم يعودوا كذلك  .

انعدم تراكم التجارب الحياتية بسبب الطفرة التي سببها استخراج النفط وهو حدث طارئ وآت من الخارج ، قلب نمط الاقتصاد شبه الاقطاعي ، الى ريعي استهلاكي وأنشأ علاقات اجتماعية وادوارا غيرت وجه المجتمع بصورة دراماتيكية وزئبقية .

لقد كان اكتشاف النفط واستخراجه حدثا دراميا انعكست آثاره وانداحت في المنطقة وما حولها بسبب طفرات الثروة الطارئة الا أن وجود النفط ليس امرا مستمرا فمن المرجح  انهيار اسعاره بعد عقدين او ثلاثة ، والاستغناء عنه باعتباره طاقة ملوثة ومكلفة وثمة بدائل تفضلها فاذا اختفت عائدات النفط .. هل سنختفي كذلك ؟ من نحن اجتماعيا و ثقافيا ؟ لسنا سوى تشكلات زمن النفط وفقاعاته وانماطه واشباحه

ان موروثنا وفولكورنا كله من أوله لآخره ، منفصل عنا ، تم تجاوزه ، تم دحره ونسيانه كل موروثنا كالحرف والفنون والعمارة والازياء وحتى تهويدة الأطفال والحزاوي والألعاب والاغاني الشعبية وكل شيء تقريبا لم يعد ممارسا ولا قابلا للممارسة ولا حاضرا ولا يمكن استدعاؤه ولم يعد عمليا وزالت وظائفه واندثرت أدواته في مجتمعات ما بعد النفط.

لقد ضاعت مقتنيات ومواد ارشيفية أو دمرت وأودى الهدم بما كان وأتى البناء بما ليس له أصل ولا ارتباط  أو منفعة منظورة  وهكذا وجدنا أنفسنا وكأننا قد ولدنا توا وكأننا نشرع في بناء ذاكرة من الصفر ! والحاصل ان هذا النمط من المجتمعات ، يغدو مطواعا و قابلا للتحكم فيه ويصبح من السهل توجيهه والتلاعب في وعيه ، وعيه الذي يواجه تهديدا مباشرا بمحو الذاكرة وتحولها الى نصوع هش يقبل أي شيء يلصق ويلحق به فمن المعروف بأن المجتمعات التي تفقد الذاكرة تميل الى خلق ذاكرة بديلة أو تنزع الى التحصن بذاكرة جمعية ماضوية جاهزة  ولاننا لم نستطع أن ننخرط طوعيا وبثقة في ثقافة عصرية مدنية ولم نتبن التحولات ونستوعبها ونتفاعل معها ولم نبن منظومة أهلية تخصنا وتعنينا فقد انزلقنا لقمة سائغة في أحشاء غول (الصحوة )، الصحوة التي كانت في الحقيقة سكتة دماغية ابتلعتنا وغيبتنا في بحور الظلام.

لا جرم ان يخشى الناس الذين ازيلت منازلهم ومعالمهم ان يتعرضوا للازالة أيضا

أما مواليد الالفية الأخيرة ، فقد خرجوا وكأنهم نبتوا من العدم وكأن لم يكن ثمة شيء قبلهم ! أجيال تحمل حنينا مبالغا فيه للامس القريب لان زواله السريع المفاجىء أشعرهم - كما يشعرنا - بالخوف وباننا غرباء في المكان أو كأن المكان هو الذي يفقد ذاكرته ويلفظنا كالنواة .

 

ليست هناك تعليقات: