الثلاثاء، 19 يناير 2021

أزمة الفنان أم المجتمع

نورة ال سعد

            يصادف المرء دائمًا فنانين يتألمون وينصب جل اهتمامهم وحديثهم عن إعادة المسرح إلى دورة الحياة وإلى ضرورة تصدره المشهد الثقافي والفني، وهم جميعًا مرتبطون بزمن نشوء المسرح وقيام الفرق المسرحية وعنفوان نشاط المواسم المسرحية، وقد خرجوا جميعًا من معطف المسرح، مخرجين وكتابًا للدراما وممثلين ومنتجين وفناني سينوغرافيا وبضع ممثلات معدودات وكاتبة امرأة هي وداد الكواري. لقد كان المسرح دومًا معطى حاضرًا ولطالما تم اللجوء إليه لتوظيفه كمنبر مباشر مهيأ للبروباغندا والرد غير المباشر وحتى التقليل من شأن أنظمة مثيلة، لها نفس المكوّنات القومية والدينية والثقافية، وأقرب مثال كانت اللوحات التي قدمها غانم السليطي أثناء الحصار الجائر واستقطبت حضورًا كبيرًا.

كيفما جاء السؤال في المشهد الثقافي في قطر فسوف يكون الجواب هو المسرح، ولذلك عندما سألت الفنان علي ميرزا محمود منذ أسبوع، عن الدراما التلفزيونية حدثني عن المسرح، وشدد على أهمية إعادة اليوم العالمي للمسرح قائلًا: (هذه الاحتفالية تخصنا نحن المسرحيين.. ونحن أسسناها منذ عام 1981 وقطر كانت من أوائل الدول العربية التي تحتفل باليوم العالمي للمسرح) وأكد على أن المسرح فرّخ مجموعة كبيرة من الكتّاب الشباب والمُخرجين والفنانين.

 


أما الفنان جبر الفياض فقد قاده حدسه التلقائي إلى أن يعزو غيابه باعتباره ممثلًا إلى ما سماه (ليلة الإعدام بحق الحركة الفنية في قطر، ليلة القرار الذي صدر بدمج الفرق المسرحية) جاء كلامه ذاك ضمن مقالة (أين ذهب هذا الممثل ؟) بقلم أمينة عبدالله نشرتها الشرق في عام 2012، والفياض مثل جميع الفنانين عضو سابق في فرقة مسرحية، وقد كانت هناك أربع فرق مسرحية جرى إدماجها في فرقتين ومضى أكثر من عقد من السنين ثم أعيدت أربع فرق ثم أدمجت مرة أخرى في ثلاث معطلة ومغيبة ! وصرّح الفياض للزميلة أمينة (وكنا نذهب إلى المسرح ولكن فقدت الرغبة والعشق له بسبب مسؤولين كانوا متواجدين في ذلك الوقت بنوا وأسسوا الحركة المسرحية وفي لحظة من اللحظات تنكروا للمسرح وأحبوا الكراسي)، وأضاف (يُعطى الفنان القطري 5% مما يقدم لمن يُجلب من الخارج)، بقي أن نوضح أن وزارة الثقافة والرياضة قد ألغت مهرجان اليوم العالمي للمسرح ومهرجان الدوحة المسرحي ومهرجان المسرح الشبابي.

 

يشعر الفنانون بأن تلفزيون قطر ليس لديه أدنى توجّه لإنتاج الدراما التلفزيونية لدرجة أنه أصدر – في أحد الأوقات – تعميمًا داخليًا بعدم إجازة أي نص ! ولدرجة أنه لا توجد حاليًا إلا شركة إنتاج فني واحدة بينما هناك تراخيص عدة لشركات لا تعمل ولن تعمل لأنها تحتاج إلى مموّل، والغريب أن تلفزيون قطر لا يشتري معلبًا ولا ينتج محليًا وإنما يجترّ – في الغالب – قديمه ! وقد أجيزت بالفعل نصوص كثيرة جدًا، نصوص محلية وأخرى لكتّاب عرب ولكنها لم تقدم أبدًا للإنتاج ! والطامة الكبرى أن قسم النصوص ومراقبة التمثيليات قد ألغي في كل من الإذاعة والتلفزيون، فلم يعد هناك حتى مسلسلات محلية وتاريخيّة بالإذاعة. ولا يتعلق الأمر قطعًا بنقص التمويل فضلًا عن أن الإنتاج الجيد سوف يأتي بإيرادات مالية جيدة لا سيما أن الإنتاج الدرامي له جمهوره في رمضان وبعده، وهناك قنوات مخصصة للدراما إلا أن المؤسسة القطرية للإعلام لم تعقد عزمًا على إنشاء قناة خاصة بالدراما !!

كتب الزميل جاسم إبراهيم فخرو في الوطن في فبراير 2019 بعنوان (الدراما القطرية بين الإهمال والنسيان!) أنه صادف ممثلًا قطريًا فسأله أين الدراما فرد (هم لا يريدون دراما بل درامات (أي براميل)! )

من جهة أخرى وعد وزير الثقافة والرياضة الفنانين (بالرغم أن الدراما التلفزيونية ليست من اختصاص وزارته) بأن الوزارة سوف تنتج دراما تلفزيونية وتنظم الوزارة بالفعل – منذ ثلاث سنوات – جائزة الدوحة للدراما المسرحية والتلفزيونية والسينمائية (!!) ومحصلتها هي جملة من اجتماعات ووعود وكلام بلا طائل، أما النصوص الدرامية الفائزة بالجوائز (وليس من بينها كاتب محلي) فقد أغلق عليها التلفزيون أدراجه إلى أجل غير معلوم !

عندما يقال الدراما القطرية يقفز إلى ذهني فورًا (فايز التوش) الذي بدأ إنتاجه منذ 1984 وطرح في مواسم مختلفة ومتفاوتة المستوى، وفي سياق كوميدي ساخر أسئلة صعبة وجريئة أحيانًا، وتصدى لقضايا يعاني منها المواطن مهيض الجناح وهمومه المعيشية والشخصية وكان تجسيدًا للفن الهادف.

لقد دارت عجلة الدراما القطرية ما بين 2008 و2011، حيث تم تقديم أعمال عرضت على الكثير من الفضائيات معظمها في الواقع ميلودراما مليئة بالزعيق والمتناقضات الفاقعة ثم جاءت السنوات العجاف للدراما القطرية فكان موسم 2012 فارغًا واستمر الحال في عام 2013 باستثناء نجوم معدودين وجدوا فرصًا متفاوتة في أعمال درامية خليجية فقد انضم جاسم الأنصاري مثلًا مع توقف الإنتاج القطري إلى المسلسل الكويتي (خادمة القوم) لمؤلفته القطرية وداد الكواري. وتألق نجوم قطريون خارج سماء الدراما المحلية منهم عبدالعزيز جاسم رحمه الله وغازي حسين وصلاح الملا الذي شارك في الكويت في مسلسل (البيت بيت أبونا) من تأليف الكاتبة القطرية وداد الكواري أيضًا.

استمر غياب الدراما القطرية برغم تصريحات متكررة من مسؤولي الإنتاج بتلفزيون قطر بأن موسم 2013 سيكون مختلفًا وغزيرًا، وفي عام 2014 صرح عبدالرحمن السليطي مدير عام شركة «تارا» للإنتاج أنه تقدم بأعمال للتلفزيون وتمت إجازتها ولكنه لا يعرف سبب عدم إنتاجها! وتعطلت الدراما القطرية كذلك في رمضان 2017 وعادت في رمضان 2019 وهذه السنة أعلن عن مسلسل واحد هو (العمر مرة) سيعرض في رمضان 2021.

جدير بالذكر أن التلفزيون القطري أنتج مسلسل أحمد بن حنبل بدون ممثل قطري واحد ! ولم يعرف مسلسل الفاروق عمر إلا ممثلًا واحدًا هو غازي حسين.

لا يتعلق الأمر بمزاجية مسؤولين وقرارات متخبطة، وليس نقصًا في التمويل الحكومي، فموازنات ضخمة تصرف بسخاء حين يتعلق الأمر بأعمال تستهدف الخارج لنيل جوائز أو سمعة طيبة لقطر ولن يجدي نفعًا إنتاج مسلسل مرة في السنة ! وأي دراما تقدم أساسًا ؟ وفي أي مناخ ؟ مناخ مجتمعي منكمش ومحتقن لا يقدر الدراما والفن ولا يتلقى تأثيرهما، وليس من جهة توظفهما ضمن سياسة عامة لتحديث المجتمع وتنويره وترقيته !

 

أما العقود الثلاثة الماضية، فتلك مرحلة خلت، تميزت بمظلة محكمة من الإنفاق والتنظيم والرعاية والوصاية الكاملة وتأسيس وحدات إدارية لها مشاريع وخطة سنوية بهدف احتكار توجيه التغير الاجتماعي وتحييد المتغيرات والمؤثرات وفلترتها وهو ليس عهدًا ذهبيًا للثقافة والفن ! لقد حدثني أحد الإخوة أنه كان حاضرًا في مسرحية في منتصف السبعينيات تقريبًا وقفز مسؤول الرقابة وقد نفرت أوردة أوداجه صارخًا أوقفوا العرض فورًا ! فقد كان جالسًا بين الجمهور وممسكًا فيما يبدو بالنص بين يديه، فلما رأى خروجًا عن النص ممثلًا في أن المخرج ارتأى أن يجعل ممثلًا يحمل الآخر على ظهره توجس ريبة وشرًا لأنه رجح أن يكون وراء ذلك ترميز سالب !

 

من الجلي أن ثمة مرحلة جديدة قد دشنت وأن التوجه العام لهذه المرحلة هو تفكيك الوحدات القديمة سواء بإلغائها أو دمجها أو استبدالها بأخرى ليست في مستواها وكذلك تنازع الاختصاصات وبروز مؤسسات أكثر نشاطًا وحراكًا وتختص بفعاليات تقدم بشكل عولمي وتستهدف صورة قطر في الخارج، وهذا يعني فيما يعنيه رفع المظلة الرعائية وتخلي وزارة الثقافة عن التخطيط والتوجيه الفعليين للمشهد الثقافي وبالطبع تبقى مظلة الرقابة والوصاية مفعلة وقوية إلا أن عدم اضطلاع الجهة الرسمية بمهامها التقليدية سينتج في المحصلة النهائية تراجعات وأيضًا سوف تخسر الهيمنة الكاملة لأن عزوف الجهات عن تمويل مشروعات حقيقية تستوعب وتشغل كافة المواهب والطاقات الدرامية والموسيقية والفنية سوف يجعل المستجدات العشوائية تؤثر كديناميات فاعلة تتحكم في متغيرات الساحة وسياقاتها.

قد يعد ذلك فرصة ذهبية للانفصال بعيدًا وتدريجيًا عن (الحكومي والمحلي) ويفتح آفاقًا للفنان القطري للانطلاق خليجيًا حيثما وجدت هوليوود الخليج وهي حاليًا بالكويت. إن المتغيرات الضاغطة تستحث الفنان للالتحاق بقطار الإنتاج المشترك والشركات الخاصة والعواصم النشطة والمدن الإعلامية، ومن يدري ربما منصات رقمية مثل نتفلكس وغيرها من خلال أعمال خليجية مشتركة.

في ورقته (الدراما التلفزيونية في ظل التحديات المعاصرة) نبّه جاسم الأنصاري إلى أن طموح الفنان وتعطش الجمهور وجدا في البث الرقمي المساحة المناسبة (بعيدًا عن قيود الرقابة ومزاجية المسؤول المؤتمر بتنفيذ سياسة المؤسسة التي يخدم توجهاتها.. حتى على المستوى المادي لم يعد الفنان بحاجة إلى حفنة الدراهم التي تُرمى له لتتحكم في وعيه وتقيد فمه ولسانه).

سيولد الفنانون في كل مرحلة من رحم ظروفهم وشروطهم التي يعيشونها في كل زمن، والفن الحقيقي دائمًا ينبثق بين الثغرات وحيثما تتوافر الشروط وبالكيفية التي تُلبّي حاجات وأشواق كل عصر وأهله.

ليست هناك تعليقات: