الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

دراما قطرية جريئة تبني عالما من المثاليات

نورة آل سعد
نشرت في " الوطن " القطرية في مايو 2006

تحليل اجتماعي نافذ تقدمه الكاتبة الصحفية مريم آل سعد في دراما قطرية جريئة بعنوان «تداعي الفصول». انه عمل لافت يخرج منشورا على حلقات كل ثلاثاء في الزميلة الراية. اصطنعت تلك الدراما عالما من المثاليات والثنائيات التي تتناوش النفس وتسيطر على إيقاع المجتمع وأحواله.

 إن (سارة) الشخصية الرئيسة شخصية متفوقة ذهنيا ولكنها مدحورة اجتماعيا ونفسيا اذ تصطدم بمرحلة زمنية صماء ذات تقاليد راسخة في التحلل والفساد والتخلف.ولا تجابه سارة اشخاصا فحسب وانما تقف في مواجهة مرحلة كامدة وتحوطها نماذج اجتماعية بشرية متجانسة من الخمول والانتهازية والتقليدية والانغلاق. و تتعلق (سارة) بشخص (سلطان) تعلقا مثاليا كتعلق المرء بإعاقته التي يتدارى وراءها. وسلطان هو ذلك المسؤول الكبير في مؤسسة بيروقراطية متخلفة تابعة للقطاع العام وتميل سارة الى تبرير سلبيته بسوء بطانته تماما كما تفعل الأجيال المنهكة المأزومة في سعيها لإيجاد بطل (غائب) وزعيم اسطوري مفقود ليكون في نظرها (العادل الطاغية)! كذلك تعلقت سارة بصورة سلطان في خيالها دون ان تحاول حتى الاقتراب منه لأنها أرادت صنع صنمها الخاص ومثالها البعيد وجعلته في صورة المخلص تارة وفي صورة الأفيون تارة أخرى ! لم تركب سارة موجة إيديولوجية كاسحة بعينها الا ان سارة انحازت للفكر الليبرالي المثالي وانحازت للمثل العليا : العدالة والحرية والمساواة وكرهت الاستسلام لفكرة الخنوع وأساليب التحلل والفساد.
 

ونستبين من (شلل) سارة بسبب حادث سيارة اشارة واضحة الى عدم قدرتها على التكيف مع مجتمعها وعدم قدرتها على الحركة فيه وباتجاهه ! وتعد كل النماذج الاجتماعية التي تحوطها مكبلة أيضا ومقموعة ومسجونة داخل نفسها لا تستطيع ان تتواصل مع محيطها ولا أكاد أجد شخصية موفقة أو سعيدة او حتى راضية في محيط سارة في نطاق الوطن أما عندما تغترب سارة سعيا الى الدراسة في الولايات المتحدة فهي في الحقيقة تهرب من الأوضاع الجائرة والمجمدة التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم وحينئذ تسترد سارة تلقائيا جزءا كبيرا من رغبتها في الحياة بل وتكتشف قدرتها المستترة على المشي وبالقدر الذي فوجئت فيه سارة عندما سألها الدكتور باركر : لم لا تنهضين عن هذا الكرسي؟ بقدر ما كانت تعي في دخيلتها أنها أرادت طوعيا الالتحام بهذا الكرسي لتبرر عجزها وتســــــوغ عدم قدرتها على تغيير حياتها ومصيرها ومقاومة العسف التي تعرضت له وإدانة التجاوزات التي ارتبكت أمامها وضدها ! تعد سارة شخصية درامية نموذجية فهي متفوقة وممتلئة بالأحلام والرغبات تحدوها الأشواق الى إحداث التغيير بأقصى درجات الحماسة والمثالية وهذه الشخصية لا تتوخى حذرا ولا استخفاء بل تكاد تكاد صدامية ومعالنة تشن حربا (دونكشوتية) لا هوادة فيها ولا خطـــــــوط رجعة وهي تزج نفسها في المشاكل او تسمح للآخرين باستغلال (مثاليتها) ضدها ! ومن المحتم ان تتعرض سارة للاقصاء والاستبعاد عندما تقف في طــــــريق الفساد والرجعية والمحسوبية وعندما يتم تحييد مثل هذه الشخصية وإقصاؤها فإنها تشعر انها محاربة ومقموعة ومشلولة ولكنها لا تستطيع فكاكا ولا مقاومة !

ان مأساة سارة في إحساسها المطبق بالرفض والاستبعاد من قبل المؤسسة وخطيبها وحتى عائلتها فهي مشلولة تماما ولم يتحقق لها اي إشباع ولم تحرز أي نجاح في داخل الوطن ولكنها في أميركا تتصرف بطريقة مغايرة تماما حيث تدرس وتتعالج وتتفاعل في علاقات صداقة مع زميلاتها العربيات وأساتذتها ومعالجيها من الأميركيين ولكنها عندما تعود الى موطنها في إجازة سرعان ما تنتكس نفسيا وتعود إليها أخيلة الماضي واضطراباته وخيباته.

تقف سارة بين بلدها (قطر) ومهجرها المؤقت (أميركا) وربما تتساءل في نفسها: هل تداعت فصول حياتها أم تداعت فصول الأزمنة والعهود على مجتمعها الصغير فانهارت بعض الحواجز وبزغ عهد جديد بمعطيات حاضرة وتحديات ملحة. لقد عادت سارة بعد حصولها على الدكتوراه ووجدت تكريما وتقديرا من المؤسسة التي عملت فيها ولكنها الآن أصبحت تحت إدارة جديدة وفي عصر آخر فالسنن الاجتماعية لها علاقات وآليات تتفاعل وتتبلور فتفاجئنا بتحولاتها غير المنتظرة.

لا تخفي سارة إعجابها بأميركا التي آوتها عندما أحست بالنبذ، وضمتها عندما كادت تتعفن في غرفتها بوطنها بلا مستقبل ولا حياة.(أميركا الإنسانية وليست أميركا السياسية وهناك فرق شاسع بين الاثنين) كما تقول سارة. أميركا التي تحبها سارة ( هي أميركا احترام الإنسان وتقديره والاعتراف به.. أميركا التي يمشي فيها الإنسان رافعا رأسه يستطيع مقاضاة رئيس الجمهورية دون أن تنغص حياته أجهزة المخابرات وتصطاده أجهزة الأمن..)

قابلت سارة مدير الإدارة الملحقة بالمؤسسة بعد عودتها الى الوطن فوجدته شابا ممتلئا بالحماسة، متحلياً بالخبرة والشهادات،وكانت هناك مفاجأة أخرى لها فقد احتفى بها مديرها وقال لها:

(انك يا دكتورة لست بموظفة جديدة... ويشرفني أن اعرض عليك أن تكوني مستشارتي للأمور الفنية بالإدارة) وانخرطت سارة في بيئة انتقالية لم تنتصر فيها بعد ولم تتوفر عوامل التغيير وآليات التحرر من خفافيش الظلام واذرعه الأخطبوطية كما أنها لم تزل بعد تراهن على أحاسيسها الداخلية نحو سلطان الذي تقابله صدفة في ألمانيا وهي في رحلة عمل منتدبة من مؤسستها. وتعجب سارة من نفسها لأنها لم تزل تعلق عليه آمالا ومشاعر على الرغم من انه كما تقول على لسانها (صفعها مرة بمرارة انتقامه وأهانها معنويا بمؤازرة المخربين وتأييد الفاسدين،... وحطمها مهنيا عندما خنق تفاعلها وعطل نشاطها إلا أنها لا تشعر البتة بأنه عدو لها).

لقد اعتمدت الكاتبة مريم آل سعد في الدراما الاجتماعية التي نسجتها بمهارة وجرأة و بقلم ثر متدفق على النمذجة في رسم الشخصيات وعلى خلق التقابلية بوصفها عنصرا دراميا محركا وكاشفا في الوقت نفسه فكانت هناك تقابلية بين سارة ووضحة (الايجابية والسلبية) و بين عبد الرحمن وسالم (المحافظة والحداثة) و بين الشرق والغرب (الوطن والغربة) فضلا عن بسطها لأهم التغيرات التي تتغلغل في نسيج البنية الأسرية للمجتمع القطري من خلال أبناء وضحة الذين يكبرون في داخل بنيان اجتماعي يتعرض لهزات مستورة وظاهرة في رؤاه وقناعاته وتوجهاته وإذا كانت وتيرة الحلقات الأولى بدت متباطئة تكاد تجرجر أقدامها بوهن وتثاقل ووخامة نفس فإنها تسارعت لاحقا بسبب تلاحق الأحداث الدرامية وتشابك العلاقات بين الشخصيات بعد أن شرع المجتمع نفسه في تسريع خطواته نحو الحراك الاجتماعي والسياسي وأصبحت هناك نقاط تماس متعددة بين الشخصيات يتلاقون ويفترقون عندها في المواقف والرؤى وتداعي الفصول. لقد اهتمت الكاتبة بالتقطيع في المشاهد وأولت الوصف والتصوير الداخلي والخارجي عناية بالغة غير انه كانت هناك مساحة كبيرة من التحليل الاجتماعي التقريري فقد وقعت الكاتبة بسهولة في أحابيل حسها الصحفي ونزعتها المقالية الانتقادية للوقائع والطبائع.

ليست سارة سوى أنموذج نقي راق من جيل كامل تصفه الكاتبة مريم آل سعد كالآتي(هي وغيرها كانوا مشاريع نماء تضج حماسة واندفاعا وتدفقا واجههم الطوفان والتعتيم والتشكيك والكراهية فانسحقوا وترنحوا وهاهي تفقد وهجها وتمتلئ أوراقها ببقع الشعور بخيبة الأمل وهي ترى الحقيقة التي تهرب منها ولا تود مواجهتها أمامها لأنها ان صدقتها فهي نهاية الحلم، فكيف تعيش بلا حلم.. ؟؟) ولذلك كان سلطان حلما يتوهج براقا كلما صعب مناله ! من أسف أن سارة تعيش في الأحلام بل من عجب إنها لم تزل كذلك برغم تغير الظروف والمعطيات من حولها! ولكن أليست تلك سمات البشر في مرحلة انتقالية رمادية ترعد بروقا.. ولكن متى غيثها؟

ليست هناك تعليقات: