السبت، 30 أكتوبر 2010

سيميائية العنونة عند شعاع خليفة

نورة ال سعد
يبدو العنوان معطى أوليا لقراءة العمل الروائي أو لنسمه مفتاحا تأويليا كما يسميه امبرتو ايكو (1) ويحدد جينيت وظائف العنوان بأربع وظائف رئيسة : الإغراء والإيحاء والوصف والتعيين وهذه الأخيرة تشترك فيها جميع الأسماء بلا تمييز (2) وتتداخل جميع الوظائف بطبيعة الحال فتشترك في التعيين المسمى والعناوين جميعا تشع إيحاءات تزداد أو تتعدد بسب ثقافة القارىء وتكتسب طاقتها الترميزية من تجاربه وملكاته بيد انها تحتفظ بقدر من الإيهام وعدم التثبت بحيث تفاجئنا بفحوى مختلف او متناه في الذكاء عندما تخضع لتحليل ناقد او متذوق مرهف الحس.
 وتقوم بعض العناوين بتوليد معان وغايات ابعد في ذهن كل متلق إذ أنها نصوص مفتوحة في عناوينها الافتراضية وتأويلاتها المحتملة بحسبانها فروضا لا تنتهي وقابلة للتوليد . يتبدى العنوان في رواية (العبور الى الحقيقة ) بوصفه بؤرة تتولد منها معان تنداح من المركز نفسه فالعبور في الرواية يتعدد تأويله عبورا الى الله وعبورا الى الحب وعبورا الى المعرفة والخلاص .
يفرز العنوان معاني جمالية وتجليات خاصة لدى كل قارىء بحسب تصوراته وخبراته وحالته الذهنية وقت القراءة ويحمل ذلك العنوان رؤية للعالم لا تخص المؤلف وحده لكنها تقع ايضا على محور اهتمام القارىء فتتحقق في العنوان وظائف الاغراء والتحريض للقارىء فضلا عن وظيفة التعيين والإخبار.  ويحمل العنوان بلاشك شحنات دلالية لا تحملها مفرداته فحسب ولكن موحيات المعاني التي يثيرها في النفوس والتي تبدو مفاتيح تأويلية لقارىء الرواية وقد تكون هناك دلالة سطحية للعنوان يفهمها كل قارىء للعنوان ثم يجد  القارئ إضافات نوعية لبنية الدلالة العميقة بعد قراءة الرواية ذاتها  بكل ما تستثيره رؤية الكاتبة في الخطاب الروائي في جملته.
ان سيميائية العنوان في رواية (في انتظار الصافرة ) لشعاع خليفة تعد براعة في الاستهلال فالعنوان كشّاف ينير سبيل القراءة التأويلية والإبداعية أمام القارئ لا على السبيل الإيضاح وانما الإلماح الذي يوجه مدارك القارىء الى معان متعددة لا مفردة فالعنوان يتحول الى إشارة حرة تستدعي تأويلات جدلية عديدة بشأن وجود صافرة منتظرة تحفز الشخوص للانطلاق في اتجاه ما . والعنوان فوق ذلك بنية دلالية مستقلة وفكرة منغلقة في حد ذاتها في ذهن الروائية ولكن تتسلل منها معان وتتفرع استدعاءات في أذهان القراء بحسب الأمزجة والظروف والاحوال وكل المحاور الاخرى التي تعيد انتاج الدلالات في كل مرة وعند كل قارىء على حدة .
لا يمثل العنوان منارة تشع معاني متجددة ومتعددة للنص الذي تشير اليه فحسب وانما تشي كذلك منذ اول لحظة برؤية الكاتب وتصوره لعمله ونظرته للعالم وموقفه من الظروف المحيطة به لذلك فقد اقترح رولان بارت دراسة العناوين لانها مشبعة برؤية العالم وكأن له وظيفة تعبيرية تحريضية ووظيفة أيديولوجية (3)
تنتظر الشخوص جميعا تقريبا في رواية( في انتظار الصافرة ) انطلاق الصافرة ؛ صافرة خارجية لكي يبدؤوا حياتهم أو يستأنفوها على نحو ما ولكن الظروف لم تكن تبدو مواتية فيما سبق لأي منهم ( جفال وناصر و شريفة وفرانك وزوجته )
شعرت شريفة بأنها ( كانت مسجونة داخل قضبان قوية من الحديد والفولاذ .. الى أن جاء ذلك البدوي المتفائل ليطرق باب دارها )  (4) ويقول فرانك لجفال ( هل تصدق انني كثيرا ما تمنيت لو تم طردي من (شل ) بأسرها ووضعي أمام الامر الواقع )(5)
ويؤمن جفال على كلامه ( كلنا نعاني من مهمة الاختيار )(6)
انها – اذاً- حالة انتظار لصافرة موضوعية او وجدانية تنطلق من مكان ما فيتحرر الأفراد من إسارهم وتتخلخل البنى الجامدة وتنعتق الحياة من واقعها المتباطئ المتلجن الضبابي حيث الشخصيات عاجزة عن الاختيار وغير قادرة على الفعل ولا تمتلك الارادة  في مجتمع غائب عن الزمن الذي يعيشه .
لقد جمعت الروائية جميع الخيوط في يد القارئ منذ البداية في عنواني الروايتين ( العبور الى الحقيقة ) و (في انتظار الصافرة ) فالاولى كانت تجربة (سيف) عبورا الى الحقيقة والايمان والطمأنينة والقيم الراسخة فسيف ابن قرية الشمال في قطر يصطدم بتناقضات مجتمعه قبل ان يبلو تجربة الغربة والاحتكاك بالثقافة الغربية . ينتمي سيف لجيل لم يكن وراءه الا جيل البحر والبداوة  وقد جاء على قدر مع الثراء النفطي وأصبح التقدم المادي في متناول اليد بيد ان قضية (الإيديولوجية) كانت العائق أمامه . اراد (سيف) ان يعبر الى الله والى العلم والتقدم والنماء ولكن لم تحتم عليه أن يختار عبورا عن طريق الآخرين ( الغرب) الذي رحل اليه مبتعثا لدراسة الطب ؟
لماذا أراد ( سيف ) أن يستنطق الغربيين (الامريكان) فكان كل مرة يستوقف أحدهم ليسأله عن الله وجودا وايمانا وسلوكا وبقدر ما كان (سيف) مشتغلا بالأمر كان الغرب مستغنيا عن هذه المسألة برمتها وبرغم تقدم الغرب وتحقق قيم العمل والإنتاج والسلوك العملي والاستقامة لدى الشخوص الغربية فإنها كانت تجحد المسألة الإيمانية وتكاد لا تعيها كما يعيها (سيف) ويثمنها برغم تناقضاته وسلوكه غير المتشرع بالدين ! كذلك كان التركي المسلم الذي أراد خداع سيف وجره الى مهلكة الادمان وكذلك كان الدكتور احمد  الذي تاجر بمهنة الطب !! وقد استطال الصدع واستفحل في نفس ( سيف ) عندما نصحه زميل الدراسة القطري صالح بأن يتظاهر بالفقر لكيلا يقع تحت وطأة ملاحقة الآخرين وكيدهم ونصحه الا يطلب الزواج ممن تستطيع ان تكون رفيقته في السكن بلا تردد مادام ينفق بسخاء .
لقد تصرف (سيف) بشرقية وأريحية وقلة خبرة ولم يكن عنده هدف ورؤية واضحة لما يريد أن يكون عليه ! ثم أصبح يكره ( بكارته )
وبساطته وطيبته وقلة خبرته وأصبحت تلك مشكلته التي كان عليه ان يتجاوزها ونسي في خضم ذلك أسئلته ومخاوفه وسبب عجزه ان يصبح مثل الآخرين الذين يحددون أهدافهم ثم ينطلقون لتحقيقها دون تأثم أو تردد .
 كذلك كانت جزيرة العرب منطقة بكرا من العالم ، بسيطة في معايشها وقليلة الخبرة ومحدثة النعمة هبط عليها الثراء الفجائي فاستدارت نحوها الرؤوس الطامعة الحاسدة وقدر عليها ان تنتقل من مرحلة الى اخرى حملت معها الكثير من المتناقضات والمستجدات والخيارات الصعبة فاذا بها تجد نفسها مثل (سيف) تماما وجها لوجه مع الغرب مقابلا: حليفا وعدوا في الوقت نفسه ! فالغرب يمد يد المساعدة لاستخراج النفط وتصنيعه ومقايضته بالتقانة والسلع والغرب  محط النظر وقبلة الدرس والتجربة والتأثر . لذلك فان الغرب موجود دائما في الرواية الخليجية بصورة مباشرة وغير مباشرة ولا تعدم رواية منه تصريحا او تلميحا (7) فهل اصبح ذلك الغرب المادي بتجربته الناهضة القائدة في غنى عن الرب ؟ عندما جنح المركب (بسيف) و(ايما) وأصبحا وحيدين في عرض البحر تصفق الأمواج العاتية ألواح مركبهما الصغير شعر ( سيف ) ان حياته ووجوده على المحك وأدرك كم هو وحيد وضعيف وتافه بلا عقيدة ولا قناعات . وأحس بذلك مرة أخرى عندما جرفه تيار انتهازي ممثلا في  أطباء وافدين سحبوه معهم الى مستنقع المتاجرة بالآم المرضى لمطامع مادية  .
يتكوم ( سيف) على سريره في أحد المستشفيات منذ اللحظة الأولى من الرواية وكان فاقدا لبصره لأنه عمي عن رؤية آيات ربه ولم يدرك حكمته في الوجود ولم يهتد إلى قوانينه الموضوعية في المجتمعات بيد ان الممرضة الامريكية كانت اكثر عمى منه لانه عندما أشار الى  الله في حديثه معها غمغمت مبتعدة ( كثير من الناس يتحدثون عن الله ! ) لقد كانت القدرية في حادث الاصطدام امرا ضروريا وفنيا لانها من جهة تعني قدرة الإله على الجزاء الاوفى ولانها من جهة اخرى تصب في دلالة الرواية بحقيقة الايمان وارتباطه بالممارسة العملية للايمان .

الهوامش:

(1)          ( انظر اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية ( 1970-2000) د. ناصر يعقوب- ص 101)
(2) ( انظر المصدر نفسه - ص 102)
   (3) ( انظر اللغة الشعرية – د. ناصر يعقوب – ص 107)
   (4)(انظر  رواية" في انتظار الصافرة "ص  142)  
   (5) (انظر  رواية" في انتظار الصافرة "-ص 156)
   (6)( انظر رواية" في انتظار الصافرة " ص 156)
   (7) ( انظر جدلية المكان والزمان والانسان في الرواية الخليجية- د. عبدالحميد المحادين - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت – ط1 2001)

 

ليست هناك تعليقات: