الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

أوبريت المناعي ( مي وغيلان )


نورة آل سعد

ابريل 2007

تعين على عبد الرحمن المناعي - مؤلفا ومخرجا- أن يختار بين أمرين إما أن يجعل عمله اوبريتا نمطيا يعتمد على الأصوات الغنائية الصداحة واللوحات الاستعراضية الراقصة بمجاميع مدربة وأبهة وزينة وبهرجة وفخامة مناظر وإما ان يختار تقديم استكشات درامية بأصوات ممثلين (ليست مطربة ولكنها مؤدية ) حيث يتناغم الصوت مع الحركة في انفعال واحساس ضمن خيط درامي واضح ومتصعد ولا بأس من خلفية من الراقصين أطفالا وصبايا ( مادمنا مولعين بالرقص ) لكن المناعي اختار الأمرين معا فجاء الاوبريت مزيجا مريجا!


لقد جنح المؤلف الى التمجيد المباشر لعملية تحديث جارية فوقع في توظيف ملتبس لحكاية شعبية عريقة ! كان يجدر بالمناعي تجسيد تأويل فني جديد لحكاية قابلة لإعادة التشكيل لكي يقدم لنا عملا قائما على فكرة أكثر تماسكا!
لم ندر ماذا تعني حكاية مي وغيلان في اوبريت المناعي ؟ أهي صراع بين المرأة والرجل ؟ ويكون المناعي حينها قد انحاز للموقف الذكوري الذي يصر على ان (الترفات) يجب ان يلزمن أرضهن ومنازلهن ولا يناجزن الرجال المناصب والأدوار !! فحين يشكو غيلان الهم تقول له ابنته ( وانت همّك ليش مي تسبقك !) وكيف يتحول مثل هذا الموقف بل مثل هذا الصراع الى مدخل الى قطر التحديث والتنمية !!
ان حكاية مي وغيلان قطعا هي حكاية الصراع بين الإنسان وبيئته تحفيزا لهمم الإنسان وسعيه لعمارة الأرض وتسخير ما عليها لمنفعته ولن ينتصر الإنسان قط لأنه قهر الطبيعة بل لأنه يحسن الإنصات اليها ويستجيب لسننها . غيلان رجل (تحفزه) امرأة على (انجاز) يمكنه من السيطرة على بيئته و(مصيره) ! والمرأة بالذات في تراثنا الشرقي عاجزة الا عن الاحتيال لأمرها وتدبير نجاتها ! لكن مي في الحكاية كانت
( قادرة ) ماديا فلم تحتج الى الاحتيال بوسيلة ملتوية بل بصورة مباشرة إذ أنها استخدمت عددا من المجاديف أكثر من غيلان وهذه بالذات هي حيلتها لأنها تعتمد على مخزون القوة عند غيرها من الرجال ولم يصنع غيلان صنيعها لأنها ببساطة سوف تزيد على مجاديفه وتغلبه فهي أغنى منه ! توقفت المنافسة جبريا وكان لابد من وسيلة أخرى لينتصر غيلان لا على المرأة في (مي) ولكن على كل النواخذة القادرين من أصحاب المراكب الكبيرة ولكي( يعسف) البحر ويروضه بقوته باعتباره انسانا ذا عقل وتدبير أي أن غيلان تحول الى موقف المرأة العاجز ولذلك كانت منافسته امرأة ! وكذلك لكي تغدو دافعيته أقوى فالرجال يتنافسون طوال الوقت مع بعضهم البعض بوصفهم أندادا في الخصائص والبصائر والإمكانات ولكن غيلان غريمته امرأة يطلب منها (القلص ) أي ان تجره وراءها فترده ولا تجيبه الى طلبه وهكذا اندفع غيلان بكل عزمه
وتصميمه على الانجاز فكانت قفزة زمنية واختراع غير مسبوق ! هل وظف المناعي هذا الخيط دراميا داخل اوبريت يحكي قصة التحديث والتنمية في قطر ؟ كان حقيقا بعبد الرحمن المناعي أن ينحي جانبا هوسه بعذابات الغاصة وعلاقات الانتاج المجحفة في عالم البحر وأن يكنس خارجا (قصة الغيص سعد) التي كانت مقحمة في العمل ولم تتقاطع مفصليا مع فكرة الاوبريت الرئيسية لا في الصراع بين مي وغيلان ولا في الاشارة الى المشروع الاصلاحي التنموي للبلد .
وددت لو اعتمد النص الشعري لاوبريت مي وغيلان على الجمل القصيرة في المونولوج وفي التحاور بين سؤال ورد لان ذلك فضلا عن طابعه الدرامي المشوق يدفع الملحن الكبير مطر علي لوضع ألحان متحركة قد تتداخل فيها الأصوات وتمتزج أحيانا وتتزامن أو تتلاحى فنخرج من أجواء التنميط وأنغام (الشكشكة) والجمل الموسيقية المكررة وتحديث الفولكلور دون توظيفه دراميا وفنيا. ان خفوت الطابع الدرامي في الأشعار كان لصالح الغنائية الشعرية الأمر الذي لم يحفز الملحن لكي يبدع موسيقى تستحث الأصوات الشابة للتعبير والتأثير واستغلال طبقات الصوت وتفجير الطاقات الكامنة وإخراجها من دائرة (التطريب) الى (الأداء الدرامي) .
انظروا إلى بطء الإيقاع وعدم اتساق الصوت مع فورة حماس غيلان وهو يخبر مي بأنه وجد وسيلة للفوز عليها ! أو مع ثورة سعد على وضعه المزري عندما أقدموا على كيه فهو يصرخ في النص( ابتعد عني ) ولكنها لا تخرج في اللحن كذلك وانظروا الى إقحام ( جدفوها على السيف) في غير موضعها وظهور مراداة (مشرق ورايح ) منطفئة. بصفة عامة عجزت الألحان الموسيقية ان تتطابق في هارموني معنوي مع العبارات (الشعرية ) الطويلة والخالية من الروح الغنائية والطلاوة اللفظية ! وبالكاد تمتعنا بالجانب (الحواري) في الأشعار لان كل شخص كان (يعبر) أساسا عن موقفه أو شعوره . لاشك أن أصوات المطربين المشاركين في ذاتها كانت شجية وعذبة ولكنها لم تستطع مراعاة الإيقاع النفسي والدرامي فحادت عن الأداء المطلوب . أثقل الاوبريت بالرقصات غير المتقنة وغير الموظفة حتى ان (مراداة) البنات على السيف تزامنت مع غناء حزين للام التي تفتقد ابنها الذي دخل البحر (تباباً) صغيرا ولم يكن من علاقة بين الاثنين الا كلمات في المراداة تقول ( سلم على ولدي خنين الروايح ) وجلست المرأة بقرب غيلان المنتحي في صمت ولم يدخل معها في حوار كما توقعنا !
لابد ان نشير هنا الى قصور المجموعة التي استخدمت في الاوبريت فهي قليلة الخبرة وجلها من أبناء جالية معينة مجتلبة من منطقة البلوش او من (ابو هامور) ولعل ميزتها تدني أجورها ! كما كانت ملابس أهل القرية نمطية الى حد كبير وتذكر بملابس أهل بخارى وسمرقند أو مغامرات السندباد وعلاء الدين في بغداد بينما كانت ملابس الممثلات الرئيسيات مزركشة جدا وهو امر مفهوم على اعتبار انهن (بطلات) اوبريت (احتفالي) !
لقد حبس الجمهور أنفاسه في مشهد دخول الجراد حيث ظهر الأطفال باعتبارهم جرادا معلقا في الهواء وكان اللحن المصاحب يحاكي بأنغامه خفق قلوب متسارعة فرحة حيث استبشر الناس بوليمة مفاجئة الأمر الذي لم نحظ به نحن جمهور مسرح قطر الوطني في تلك الليلة بالذات.
وددت لو لم تضف كل تلك الزوائد الى الاوبريت دون ان تسهم فعليا في تعضيد الفكرة الرئيسية أو تصعيدها!
فما معنى وجود كل من سيف ابن مي ولولوة بنت غيلان ؟ وما دخل حكاية الغيص سعد وابنه محمد في صراع مي وغيلان ؟ وأي دَيْن تذكر به ام محمد ابنها في نهاية الاوبريت ؟ ان محمدا ابن الغيص سعد لا يحمل في زمن(الدوحة الجديدة) ديونا ! لا دين الغوص ولا دينا وطنيا مجازيا وانما يحمل بالأحرى رؤى وتحديات وآمالا عراضاً ! وددت لو لم يقحم المؤلف شخصية الرجل العجوز ( الممثل علي سلطان ) الذي قبل للأسف ان يكون دوره ملاحقة النسوان على السيف !
وددت لو لم تخرج البنات فجأة من (خن ) المركب بوصفهن جزءا من حلم الغيص سعد الذي تم كيه لتوه بسبب الم وطنين في أذنه ! واضطرت البنات الراقصات المتمايلات إلى تخطي أجساد البحارة النائمين قفزا لأنه لم يتم ترتيب الأمر بطريقة تسمح بحركة منسابة للراقصات !! ودار حوارغير واضح بين سعد وما يمكن اعتباره (بنات حلمه)
أو هذيانه بعد الكي ! وددت لو لم يلجأ المناعي المسرحي الكبير إلى الفيلم السينمائي عجزا عن (مسرحة) أحداث معينة على الخشبة ! وكيف يعجز المسرح أبو الفنون أن يستوعب الفكرة ويقدمها من داخل آلياته ووسائله الذاتية ؟ لم لم يبتكر هيكل مركب ؟ لم لم يجسد الأطفال البحر بأجسادهم المتماوجة ؟ لم لم يرفع شراعا على صارية تنفخ فيه مراوح هوائية كهربائية وسط تهلل اهل القرية ؟
لقد نقلنا الفيلم السينمائي الى فن آخر ولم يلبث أن نقلنا الى زمن آخر حيث مرت ناقلة نفط عملاقة تمخر العباب ! وكأن شراع غيلان أو كأن (جهد) الإنسان في هذه المنطقة كان فاتحة خير على البلاد! أو أنه ساهم في نقلة نوعية الى التحديث !وكأن لحكاية مي وغيلان علاقة بالنهضة المادية الممثلة في الأبراج العمرانية والتي تسببت -أصلا وفصلا- عن إيرادات نفطية وغازية! وددت لو لم يقف شخصان بطريقة تقليدية مضحكة على جانب المسرح كلاهما من القرية ذاتها ! ولكن احدهما يجهل لسبب ما شأن غيلان ومي ! ويبدأ الحوار بقول احدهما : ايش السالفة ؟ وما نفع هذه المقدمة الزائدة ؟ والمشهد التالي مباشرة يفسر كل شيء بدخول مي وغيلان وتحدث كل منهما عن منافسته للاخر.
من عجب أن يظهر الأشخاص قبيل نهاية العرض وكأنها عودة أهل الكهف فمحمد يعود شابا عصريا في عمر أمه وهو الذي كان تبابا في زمن الغوص !
وبحسب النص يدخل سيف ولولوة عجوزين في السبعين ولكنهما في العرض دخلا شابين بملابس عصرية !ولا ندرك معنى لدخولهما !! من المؤسف ان يظهر (غيلان) في الاوبريت شخصا حقودا مغيظا مسكونا برغبته في قهر مي ! موتورا من نجاح (الحرمة) ولا احسب إلا أن القطريات لن يعجبهن ما صنع المناعي بشخصية مي حيث بدت تلك الممثلة على الخشبة مثل (معلمة قهوة بلدي) تناكف غيلان وتتحداه وتكبس على أنفاسه وتلحق به مهتاجة محبطة بسبب ما توصل إليه برغم أن اختراعه كان ذا منفعة عامة لخدمة الناس جميعا .



ليست هناك تعليقات: