الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

بين اشكالية النص الدرامي والعرض الماتع

ابريل 2007
نورة آل سعد

ان المسرح فن. وهدف كل فن هو صناعة فرجة تحقق الامتاع واللذاذة وقد تكون المتعة فكرية أو شعورية ولكنها في المسرح لابد ان تكون استمتاعا بصريا وسمعيا . وهذه المتعة تنتجها ادوات واليات مسرحية تنفذ النص وتمسرحه على الخشبة بحسب رؤية اخراجية معينة . يقدم المسرح الواقع والمتخيل معا بصورة كابوسية او فانتازية بصورة معقدة او بسيطة واقعية ام تجريدية غير انه- في نهاية المطاف- يقدم رؤية تعكس التزاما وموقفا من الذات والعالم والمستقبل في عالم جمالي وفني .


ينتمي نص المناعي (هلوسات ) قطعا الى المسرح غير ان مسألة مسرحته وتحويله الى عرض عملية لا تعتمد فقط على آليات مسرحية ( حركة ممثلين وموسيقى وديكور ومناظر وازياء واكسسورات الخ ) بل ترتكز اساسا على الرؤية الاخراجية التي تتعاطى مع النص . يجب ان نتفق اولا على ان العرض هو الذي يؤسس للفن المسرحي وليست النصوص فهي تنتمي الى الادب ولكن الاشكالية القائمة بين الكتابة الدرامية والاخراج المسرحي هي اشكالية مثارة ومستمرة عند الفرق المسرحية القطرية على وجه الخصوص لان لكل فرقة كاتبها الذي يقوم دائما بإخراج نصه المسرحي مثل المناعي والرميحي وغانم السليطي وكذلك ناصر عبد الرضا احيانا
اذا كانت الرؤية الاخراجية خليقة بإعادة صياغة النص الدرامي وتفسيره من منظورها الخاص بما اصطنعت من ادوات واصطفت من مدارس فان مخرج النص سوف يخلص لمحددات النص واطره لانه مؤلفه وليس كل كاتب- بالضرورة -قادر على ان يبتكر رؤية ابداعية لتقديم نصه عرضا ممسرحاعلى الخشبة !
لقد قدم المناعي عرضا قصيرا لموضوع رئيس دون تفرعات ثانوية لذلك كان الخط الدرامي مشحونا ومكثفا وان لم يكن تصاعديا فلا وجود لحدث او عقدة او تحولات كما اعتدنا في المسرح التقليدي والشخصيات فردية غير انها لا تحمل سيكولوجيا او طبائع محددة وليست هناك محددات فكرية معينة بل يعبر النص عن محض موقف ! وقد ادخل المؤلف مسحة من الكوميديا في الحوار والمواقف التي رويت من كلا الشخصيتين مما وشى بهشاشتهما وانسانيتهما لكيلا يتحولا الى بطلين أو- اسوء من ذلك -الى محض فكرتين تجريدتين .

فيما يخص الاداء التمثيلي كان اداء الممثلة آلاء شاكر أقرب الى التشنج وقد اسند دور الرجل الى الممثل على سلطان وهو ممثل قدير برع في نمط معين من الأداء الكوميدي الذي وظف فيه ملامحه وجرمه الصغير غير ان الشخصية التي اديت في العرض كانت تتطلب ممثلا ذا مؤهلات توحي بالهيبة والكمال لكيلا تجعلها مسحة الكوميديا محل استهزاء ولكيلا ينزلق الممثل من الفكاهة الى الهزل الممزوج بالسذاجة والعبط ! فالفكاهة في النص اصلا كانت تحمل طابع الفكرة الانتقادية الكاشفة لفداحة ما يجرى وفظاعته .
كانت السينوغرافيا في العرض ذات ثقل كبير فقد اشبعت الجو بالطاقة النفسية المنشودة معززة بالموسيقى غير ان الانارة كانت غالبا ثابتة .
والسينوغرافيا ببساطتها وسكونيتها أوحت – كما أريد لها - بجمود الموقف واكفهراره فبدا العالم خاليا من المعنى وكلا الشخصيتين تواجهان قسرا رعبهما وفشلهما فتضحكان وتبكيان في الوقت نفسه ولكن الامر لا يصل الى حد العبث فهما شخصيتان تتعايشان بصورة طبيعية مع عالمهما المشوه ! حتى ان الرجل يتمنى العودة اليه بينما تبدو المراة لامبالية ومطمئنة الى ما هي فيه لانه لاشيء لديها لتخسره ! بل انها تريد استغلال الوضع الراهن فتسأل الرجل مرارا بان يتزوجها وفي نهاية العرض يجد الرجل ان ذلك العرض مقبولا .. ولا مفر منه !! كان الرجل يجتر مثلما تفعل المرأة الذكريات ذاتها التي تمثل الفشل والخيبة والاحباط فكلاهما عاشا الانتظار بلا طائل لذلك فان السينوغرافيا لم تعكس جوا غرائبيا بل معادلا موضوعيا للحالة التي يعيشها كل من الرجل والمراة في مجتمعهما وقد ارتدت كلا الشخصيتين ملابس عادية تجردت من قرائن او علامات طبقية او مميزة .
وحين تحدث الاثنان كل عن همه الخاص كان التناغم ظاهرا في مواجهة كل منهما لحقيقة وضعه الاجتماعي وفظاظته . ليس مهما ان كان ذلك (الواقع) حلمها هي او ان كان كابوسه هو لانهما مشتركان فيه وكلاهما مرآة لصاحبه وهما على الخشبة مرآتنا نحن المتفرجين فهل كان كل ذلك كابوسنا نحن أيضا ؟
من عجب ان الممثلة وصفت نفسها ووصفت من قبل الرجل بانها عجوز غير انها كانت شابة ناضرة على خلاف الممثل الرجل الاشيب الذي كان يتحسر على عمره الذي مضى انتظارا وضياعا . اشعر بان المخرج افرط في توليد حركة الممثلين من ايقاع الحوار وعنفوانه لانها كانت حركة جسدية تشنجية عنيفة في مجملها فالمخرج اتكأ كلية على حركة جسد الممثلين في عرضه . وقد انحصر الفضاء الدرامي الذي تلقاه المتفرجون في حركة الممثلين اثناء حوارهما وكان ذلك يستوجب برايي الاستعانة بممثلين اكثر مراسة وحضورا
لا ادري ما اسمي النهاية وقف الاثنان بشموخ تقريبا وهزما الفشل بتحالفهما معا ضده !
وهما برغم تشابه ظروفهما كانا عدائيين لبعضهما البعض حتى ادركا في النهاية انهما شخص واحد او انهما صنوان
ان المرآة التي كانت تبحث عنها المرأة لم تكن معدومة لانه كان الرجل اصبح مرآتها وكانت تستطيع أن تتمرأى فيه فهو يعالنها بقسوة بانها عجوز ! والقطة كانت تسليتها ومؤنس وحشتها وقد تحولت هي ذاتها الى قطة تختفي وراء الستر وتراقب ما يجري حولها دون ان يعيرها احد التفاتا بل عوملت كذلك مثل قطة البيت الطوافة على اهله وكانوا يفتقدونها فقط عندما يحتاجون اليها
كانت القطط سلوتها وملهيتها وكذلك بحث الرجل عن تسلية في البستنة وتربية الحمام ثم استغرق في سوق الاسهم ليسد احتياجاته .
نجح المناعي في عرضه عندما تحقق مفعول الكذب الفني فقد اصطدمت اجزاء كثيرة من نصه المسرحي بوقائع حياتنا اليومية واخترقت مشاعرنا وربما لم ينم بعضنا جيدا بعد حضور ذلك العرض .

لقد قابل الرجل المرأة بازدراء واحتقار وعداء لانه كان مسجونا داخل نرجسيته ووهمه عن نفسه وقد كان في حالة انتظار ثم انتهى الامر الى مواجهة قسرية ! التفت الرجل ليرى شخصا اخر في المازق الوجودي والنفسي ذاته شخص ينتظر ويتعلق بالاوهام شخصا مثيلا له
ان حوار الشخصيتين ان امكن تسميته كذلك لم يكن حوارا اعتياديا في معظم الاوقات بل كان اقرب الى حوار يحمل ( التبادلية والمزاوجة ) فهما يتحدثان كل عن همه بيد ان الهم واحد وان اختلف في الحالتين ولكنهما لا يتحاوران معا فكل منهما يتحدث على حدة دون ان يعير الآخر التفاتا ولكنهما بالنسبة لنا كانا يتقاطعان في حديثهما
كان هناك وقت استخدمت كل من الشخصيتين الحوار الداخلي المونولوغ الذي كان يشتبك مع الحوار الداخلي للشخصية الاخرى . لذلك لم يكن حديث النفس انسلاخا عن الصراع الدرامي على الخشبة بل معبرا عنه اذ انه لم يعزل الشخصية عن الاخرى بل كانا يتحاوران دون ان يبدو انهما يقصدان الى ذلك ! كان هناك ( حوار ذاتي ) ولكنه غير تقليدي وكانما المخاطب او المخاطبين غائبين خليفة وامه او كنا نحن المخاطبين احيانا غير ان الشخصية الاخرى كانت تسمعه وهو واع لذلك ولكنها تسمعه وتستجيب بطريقتها انه اذن حوار( ديالوغ) مقطوع لا يحقق غاية التواصل لانه غير مطلوب اصلا بين شخصيتين تعيش كل منهما في عالمها الخاص !
وكان هناك وقت تجاذب الاثنان حوارا ولكنه عدائي ونابذ للاخر وعندما تقترب النهاية كان هناك وقت للتحاور والإنصات للآخر وشرع كل منهما في الالتفات الى شخص الاخر. يتحدث الاثنان في مونولوغ لانهما يشعران بوضع مصطنع وبيئة غريبة والاخر غير معني بالذات فتصطبغ المونولوغ بغنائية النرجسية والعزلة يتحدث كل منهما عن نفسه و مشاعره وسط اكراهات الواقع واحباطاته ولا يعيران انتباها في البداية لتقاطع معاناتهما والمشتركات بينهما ! انها عزلة تشف تدريجيا لتبلغ مداها لروح معذبة عند كلا الاثنين تجتر افكارها ووساوسها قسرا امام لحظة المواجهة لانها كانت في الواقع اليومي تنحيها جانبا وتهرب منها الى ملاذات اخرى ( هوايات تجارة خيالات هفوات
لا يتخذ الفصل الواحد مشاهد بل هو المشهد نفسه تعتورها توقفات واستئناف فقد كانت هناك وقفات حيث ينتهي الحوار الى طريق مسدود فينكفىء الاثنان يضحكان ثم نتبين انهما يبكيان او يسقط الرجل منهارا او تذهب المراة لتتكور او تستلقي على ظهرها ثم يستنأنف الحوار من جديد هذه الوقفات لا تؤشر الى زمنية او حركة بل انها تؤكد انتفاء الزمن ودورانه داخل الجمود لان الشخصين اصبحا خارج الزمن !
ان السنوغرافيا المتشحة بالسواد تتضافر مع الموسيقى التى تعصف بهما كلما احتدما في حوار مقطوع متصاعدة تدريجيا كالعاصفة التى تعلو فيصيخا السمع ويلتجئا الى بعضهما البعض . هذه السينوغرافيا لا تزحم الخشبة ولا تشغل اذهاننا فهي محض خلفية تمكننا من الالتفات كلية الى تفاصيل حركة الممثلين وهذه الحركة اعتمد عليها المخرج تماما لكي يبرز درامية العرض. لقد استعاض المخرج عن التصعيد الدرامي للحدث المسرحي بالدفقة الهائلة للحوار بوصفه ( كلاما وحركة وصمتا ) متضافرا مع الموسيقى والسنوغرافيا الالبسيطة وهو امر تلجأ اليه كثيرا من الدراماتورجيات المعاصرة وقد تذهب به بعيدا الى التجريد واللامعقول لم يحقق الحوار في نص المناعي تصعيدا بل تدويرا فهو حوار احتمالي مختل ومتقطع محفوف بالعدائية والنفور والهلع يسير وفق ايقاعه دون تدخلات او حوافز ولكنه ينتهي الى القبول بالمواجهة فيكون هناك تحالف وتآلف ربما يفسر ذلك الشموخ ورفعة الراس عندما وقف الاثنان جنبا الى جنب متحالفان وربما شعرا انهما معا اقوى مما كان فرادى
اتينا من عالم واقعي يبدو منسجما وقانعا وبيداغوجيا (تلقينيا) فوجدنا عالما متخيلا مليئا بالمتناقضات فكان هذا العالم مرآة لذاك !
نجح المناعي في نصه في خلق شخصين يمارسان انسانيتهما في مكان كالاعراف يتلاحيان ويتعاديان ثم يتحاوران ويتحالفان في مواجهة المجهول وقد مثّل اتحادهما عنصر مفاجأة اذ كنا نتوقع ان يصحو الرجل من كابوسه مثلا او ان يدرك انه قد مات فجأة بنوبة قلبية فانتهى صراعه الدنيوى
اختار المناعي ظرفا أوموقفا لبطليه لكي يلتقي ذنيك الشخصين في مكان ليس قبرا ولا منفى ولا كابوسا ولكنهما داخل الحالة التي يعيشانها ويتعايشان معها فعلا دون ان يواجهاها او يستطيعا ذلك بارادتهما .
التقيا قسرا ووصل كل منهما الى حالة التمرئي مع الاخر وقذف بنا المناعي الى داخل الحالة ذاتها الى داخل الخشبة .
لا يسعني اخيرا الا تهنئة الأستاذ عبد الرحمن المناعي بنيله جائزة الدولة التقديرية التي اشعر انها كانت تكريما لجميع الكتاب والفنانين في قطر .

ليست هناك تعليقات: