السبت، 30 أكتوبر 2010

القص التجريبي في (الطوطم)

 المجموعة القصصية الأولى لنورة محمد فرج

بقلم : نورة ال سعد

لعل القصة القصيرة اليوم هي الجنس الأدبي الأكثر نموذجية وحيوية وتأثيرا في خلق الأفكار وتوليد التجارب والنصوص واقتناص الإشكاليات لاسيما أمام المرأة ذلك الكائن الذي يعيش ازدواجية متقنة ومعاناة مكثفة في المجتمع ويرزح تحت ضغوطات تتحدى خياراته كوجود وذات واعية طموحة وكإبداع يبحث عن هوية ثقافية وصوت متميز .

تدور حركة المجموعة القصصية " الطوطم " داخل إطار فكري تأملي له طابع وجودي وله سمت سكوني، لأنه إذ يوقف الأشياء ويقلبها ويروزها فإنه يسعى دائما إلى إضافة معرفية إليها من خلال الذات المثقفة للكاتبة، دون أن يظهر اختراقا للبنية الاجتماعية التي تنتمي إليها الكاتبة أو العمل الادبي .
إن القصة القصيرة القطرية اليوم تمر بانقلاب بنيوي حاسم ( على يد قاصتين متمرستين هما هدى النعيمي ونورة محمد فرج ) لا يرتهن ذلك الانقلاب للحس الاجتماعي بل أوجد تفسيرا بنيويا فنيا للواقع وانحاز إلى الكيان الداخلي للنص وتفاعل تماما بروح الحداثة الطاغية ، فقد شكلت الحقبة التسعينية منعطفا كبيرا وحادا في مفاصل الواقع الاجتماعي وملامحه التي تميزت بالانسدادات من جهة وبالتمييع والهلامية من جهة أخرى وهذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، حدت بالقاصتين ( نورة فرج وهدى النعيمي ) إلى التخلي عن صورة البيئة الضيقة المحدودة إلى آفاق النص المفتوح على كل الفضاءات ، وتحققت إلى حد ما حرية الكاتب وإبداعه من خلال صوغ أسئلته حول علاقة الشخوص بأنفسهم وبالآخرين وبالكون فتكون النص الذهني التأملي، وسيلة للكاتب لكي يعبر به منطقة الجمود والسكون في الواقع، إلى منطقة السؤال والاستفسار في فضاء النص وفنيته.

تحمل قصص نورة محمد فرج في مجموعتها البكر " الطوطم " أسلوبا ذا فرادة في فضاء القصة القطرية وهي تتميز بصبغة خاصة كالوسم الذي يميزها من غيرها من كاتبات القصة في قطر وفي المنطقة العربية فقصصها ذات مذاق خاص؛ روحها المغامرة المحسوبة وعنوانها الكشف الحصيف وأسلوبها تداخل العقلاني مع غير العقلاني وتجاور العادي للخارق وتضاغط الاجتماعي مع التجريدي وتعالق الزمن الحاضر بالأزمنة المختلطة.
 كان القص عند نورة محمد فرج صنو المغامرة والتمرد وسعيا باتجاه الكشف والفضح عن الحيوات السرية والتاريخية وما وراء الأقنعة ومعرفة كنه الطوطم والكشف عن التابو لذلك كان تجذر الإنسان في التاريخ هو أرض الحياة اليومية ، وكان اللاعقلاني موجودا في العالم المعقول وكان الخارق عاديا والمنطقي غرائبيا .

و التجريدي عند نورة محمد فرج وسيلة تكنيكية فحسب لصوغ الواقع والقبض عليه وتحويله إلى أفكار ولذلك نزع الميل الى التجريد الى جعل الأفكار والشخوص أكثر إنسانية وعالمية بيد أن نورة محمد فرج كانت تختار قضايا الشعوب فتصور الظلم الاجتماعي، والمهانة الطبقية والاستبداد السياسي والفكري فضلا عن معان أخرى ففي مجموعتها (الطوطم) نعثر على معان بعينها كالخوف في قصة ( قرع الأبواب الموصدة) والأماني في (لولا الابتسامة) والبحث عن الحقائق (النداء) والاستبداد السياسي في (سيد الشمس) والتجربة المرة في (وردة حمراء) والقسوة في (الزجاج) والزمن المغلق في (موت جدي) والظلم الاجتماعي في (القلعة) والتمرد والعبثية في (سبعة صغار ظرفاء) وفي (حال هذه المدينة )
وحين تتحدث نورة محمد فرج عن القصور تبدو كأنها تتحدث عن أشياء أخرى تقول في (سكان القصور) بتلك اللغة الشعرية المشعة (سمراء مثلي . مجنونة مثلي . كافرة .. مؤمنة مثلي ... تذوب من دمعها مآقيها . هل لمست بعض أمانيها ؟) ص66 ثم تقول (حتى متى نسكن القصور؟ حتى متى؟ حتى لا تعود القصور قصورا؟ حتى لا يعود سكانها بشرا؟) ص66
وتأتي (القلعة) على رأس تلك القصص لتمثل اكتمالا لأسلوب الكاتبة ورؤيتها وتمرسها بأدواتها الفنية ولغتها الشعرية . وتحوي هذه القصة القصيرة عناوين فرعية بداخلها مثل (المهمة الليلية – الهذيان – الحب الأول – أصحاب الأعالي – أصحاب الأسافل.. إلخ ) وتمثل هذه الوحدات أقاصيص قصيرة جدا بحد ذاتها وتبدو كأحجار مختلفة الأحجام والألوان تصطف لتكون لوحة موزاييك واحدة هي بمجموعها قصة (القلعة).
ولا يقودنا السرد الذاتي عند نورة محمد فرج  بالضرورة إلى التماهي السهل مع الراوي ولكنه يدفعنا دفعا إلى مراقبته عن بعد .

عمدت نورة محمد فرج أحيانا إلى ظاهرة انضغاط الفضاء النصي لبعض القصص عن الحجم المعتاد بل إن لها قصصا قصيرة جدا خارج المجموعة قد تتألف من خمسة سطور فحسب وبعضه موجود في مواقع أدبية متخصصة على الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت) ولكن نورة محمد فرج لا تنقاد خلف غنائية مقطوعة الأواصر مع الواقعية، بل يتداخل الرومانسي بالواقعي ضمن الحكاية الشعبية، والفانتازيا والترميز إلى جانب شعرية اللغة وتلوين المواقف بمسحة كافكاوية أو بالأحرى مناخات القص العربي في ألف ليلة وليلة كما في قصص (أهل ذاك البيت) و (القلعة) و (سكان القصور) بينما نستشعر غلالات رومانسية في قصص دلال خليفة ولغتها المترسلة حينا المتقطعة حينا آخر والتي تسيطر على آليات البناء النصي الأخرى .

تدعونا القصة القصيرة عند نورة محمد فرج إلى تفحص التحول في وعي المرأة الكاتبة وإحساسها بظروفها والتعبير عنها بعد تمثلها وإعادة إنتاجها فنيا، وبرغم الطابع التأملي والتجريدي للشخوص والثيمات فإننا نستطيع عبر قراءة متأنية أن نلاحظ هيمنة الاتجاه الفانتازي الغرائبي على الكتابة القصصية .
وهذا الافتراق شعوريا وعاطفيا وفنيا عن الواقع يعني في المقام الأول لدى القاصة رفضه وإدانته فالقاصة نورة محمد فرج في مجموعتها الطوطم تعري هذا الواقع تماما وتعطيه بعدا غرائبيا لإقناعنا بلا معقوليته وفظاظته ولا منطقيته ، لا باعتباره وقائع فانتازية فحسب بل أيضا بوصفه نسقا لغويا ومعالجةً ورؤيةً فنيةً كذلك .

إن شعرية النص تتحدد في أذهاننا بواسطة اللغة بشكل رئيس لكنها ترتبط بالزمن أي بالحدث (أيا كان) والذي يحمل بدوره مغزى ومعـنى (محددا أو ملتبسا) والمبدع الحقيقي لا يمكنه أن يفقد الحس الموضوعـي بواقعه وعلاقاته التاريخية، ومدلولاته الأيديولوجية، لذلك عندما نراه يغوص عميقا في آليات البناء القصصي الداخلي، فإنه لا يفتأ يلامس الجوهري في العالم الخارجي بالمرمّز والمؤسطر والفانتازي .. وبالواقعي أحيانا .

ليست هناك تعليقات: