السبت، 30 أكتوبر 2010

القصة الحداثية - " أباطيل " أنموذجا للدكتورة هدى النعيمي


نورة ال سعد
في المجموعة القصصية للدكتورة هدى النعيمي والمعنونة
 ( أباطيل ) - صدرت في عام 2001 - كانت القصة القصيرة عبارة عن مساحة من التجليات والإيحاءات والانزياحات من الخارج إلى الداخل توغلا الى مغاور النفس ودهاليز اللاوعي ولكن ضمن بناء يمكن تعقله وتصوره وتأويله بدلالات فكرية واجتماعية.
 
لم يعد من افق أمام القصاصين الا في صوغ عالم يماهي عالم الواقع في ضبابيته وغموضه وتفكيكيته وهكذا دخلت د. هدى النعيمي مختبر اللغة وأخرجت نثرا شعريا لا يخلو من الحس القصي وهذه الكتابات الداخلية الذاتية الغنائية لم تحلنا الى الخارج ( الواقع ) وإنما دفعتنا الى التوغل الى الداخل ( الذات ) ولكن أي ذات ؟
إنها ذات مخذولة وعارية ومقموعة كما في قصة ( في الحفرة ) ولكنها تمارس اللعب اللفظي وتستخدم اللغة المسكوت عنها في الجانب الجسدي في تحد ومساءلة لهذا الواقع المأزوم  .
ان مجموعة (أباطيل) تعاود التعبير في كل قصة عن وعي (الذات) الفردية بنفسها ورغبتها في الحضور وتتبدى الثيمة الرئيسة في قسوة الواقع وصداميته  لا نقول في بناء قصي بل في تشكيل لغوي شاعري جديد يعتمد على الدفق الوجداني والشعوري والايحاء النفسي الذي يتصعد حتى ينعقد حزنا وتأزما غرائبيا بل وكابوسيا ايضا يتضح في الانوية الفاقعة واستخدام اللغة الشعرية في مظهرها المجازي وهي قصة قصيرة تستحث الأسئلة والاستدعاءات المختلفة لدى كل قارئ على حدة .
هل يمكن للشعرية إلا أن تعبر عن وجدانية الذات المرهفة وهي تواجه بنية اجتماعية معقدة صارمة فتحاول تفكيكها وتحليلها لانها عاجزة عن تغييرها بغير هذه الطريقة . ان الذات تنزع الى التمرد على الواقع واللغة والماضي وتحاول صدم اعتباراتها ومعتقداتها القائمة وتقوم بنحت لغتها الخاصة كنوع من انتهاك المحرمات ورفض ممارسة النفاق الذي تفرضه مجتمعات تريد احتواء الافراد وتذويبهم في وعاء مسيخ مليخ .
هذه اللغة الشعرية تفصح عن روح فردية معذبة ترزح تحت وطأة السقوط والانهيار والعجز وتستخدم لغة شفيفة وتراكيب جديدة وتخلق عالما مليئا بتفاصيل غائمة ورموز وأباطيل وهي تأتي دائما بضمير الأنا المتكلم  الذي يفيض قهرا ويقطر عجزا ويعيش زمنا كابوسيا ممتدا ؟ انها ذات تعاني المراقبة والملاحقة والقمع والحرمان. وهذه الذات هي الحدث وهي محور القص ومعاناتها الداخلية تتمظهر خارجيا ويزيدها بؤسا وتعتيما تلك اللغة المكثفة الشفيفة وليس هناك من حدث مهم ولا من زمن محدد .
انحازت د. هدى النعيمي الى الشعرية باعتبارها اللغة التي تتجاوز البعد التوصيلي وتغلّب عليه السمت الجمالي تلك  اللغة التي  تحطم الاحالة الآحادية وترفض كذلك الاحالة الخارجية الى واقع خارجي عنها وتسعى الى الاستغراق في ادواتها الفنية ذاتها .
وكأنما تهدف القاصة النعيمي الى خلخلة البنى التقليدية وكشف سوءات المجتمع ممثلا في العلاقات الأسرية الأبوية الباردة والممسوخة.
وقد كشفت القاصة في كثير من القصص عن تلك العلاقات الاسرية المهترئة ذات الطابع البطريركي المستبد والتي تتسبب في اقصاء الفرد واستلابه حريته وحرمانه من الإشباع والحضور وأحيانا الحياة ذاتها كما في قصة ( اكروبات ) وكذلك في ( شخبطة على جدار التاريخ ) حيث يُشخصن ( الماضي / الموروث) في هيئة الجد الذي يمثل جملة من تحالفات متشابكة تكرس للعلاقات المستبدة في المجتمع المتخلف.
وحتى عنوان المجموعة -خلافا للعادة- لم يكن عنوانا لإحدى قصص المجموعة بل وعاء يحتوي جملة القصص كلها ويعبر عن كل واحدة منها على حدة ويبقى مع ذلك بنية مستقلة وفكرة محورية تشير الى ما هو ابعد منها جميعا . ترى ما الأباطيل التي عنتها القاصة لاسيما انه لا توجد قصة بهذا العنوان داخل المجموعة ! أهي أباطيل وأوهام تعيشها الذات وتخلقها في المجموعة أم انه ذلك العالم الخارجي الذي سيتلقفها ؟ إن القصة القصيرة عند الدكتورة هدى النعيمي لا تعبر فحسب عن انهيار الواقع ولكن تحاول تعريته وتمعن في تحطيمه بدورها وعلى نحو شرس ومتعمد برغم أنها ذات مخذولة إلا انها متمردة وجامحة وعازمة على الخروج من عزلتها والانفكاك من قيودها . ان الذات الغائبة تشعر بأنه يتحتم عليها الحضور كما يتبدى بجلاء في قصة ( شخبطة على جدار التاريخ ) بيد ان الحدث لا يختفي تماما وانما تتغير تردداته فهناك مبنى حكائي لحكاية خاصة تتشكل بخطاب انزياحي يحرف الدوال عن مدلولاتها القريبة عبر نسج عالم قصصي – بحس شعري - يخيم عليه الجو الغرائبي  فينفلت زمام كل عناصر العمل.  والتجارب الانسانية التي صاغتها القاصة فنيا ليست نابعة من البيئة القطرية الاجتماعية بالذات بل انها تجارب انسانية في تجريدها وجوهر اشكالياتها ودفقها الشعوري . لقد عمدت القاصة د. هدى النعيمي الى تعامد التراث الشعبي مع التراث الانساني قديمه ومعاصره مما جعل القصة لديها تنطلق من وعي الكاتبة الكوني بالوجود وتجريدية للأفكار لا تضبطها بخارطة محدودة ووعي محدد .
ومن مظاهر شعرية اللغة في المجموعة  صرامة الجمل القصيرة وايقاع الاقاصيص التي تجري في صفاء وانسيابية واحيانا نعاين فخامة ورخامة في الالفاظ والتراكيب كما في قصة ( دامس والعزباء   ) وتتبدى الشعرية من خلال الترميز والمجاز ولغة الحلم والرؤى والاشكال العجيبة والتكثيف الدلالي للغة بما لا تؤطره البلاغة التقليدية من تشبيهات واستعارات وتراكيب وكذلك التطعيم بمفردات قرآنية وكذلك العمد الى الجناس والقافية كما تطلب الامر في قصة (بعد الألفية الأولى)
هذه الشعرية تقصدت إعادة قراءة للتاريخ وإعادة إنتاج للأفكار وإعادة صياغة للغة وإعادة إبداع للقصص والشخصيات والتقاليد كما في ( ليلى وانا ) ( وشخبطة على جدار التاريخ ) وقد ترتهن الرؤية الفنية للقاصة – في جملتها - لمنظور نخبوي مضبب ومأزوم يلفع منظور القاصة بالترميز الجاهز ليصم الجهات الماضوية- دائما - بالسلطوية بالانسداد والقمع.


ان النص يمثل عند القاصة هدى النعيمي بنية لغوية مرمزة ذات ايقاع متصاعد سريع وذي نهاية كاشفة انها نصوص تلح علينا كي ننظر اليها لا باعتبارها لغة تعبيرية ايصالية وانما لغة مولدة موحية وذات ملامح جمالية تستحث الانفعالات وتستدعي الذاكرة وتحقق وعينا بالنص ودلالاته
ان النص هنا نص حداثي يتحرى تعددية القراءات فالنص لم يعد حصرا لمعان محددة وانما مجال وانتقال واطلاق وتعددية وكأنما يفترض أن نصا ما لم يعد اليوم ينتمي الى جنس أدبي بحد ذاته فكل نص اصبح بمقدوره أن ينتسب الى الادب كله مخترقا الحدود والفوارق بين الاجناس الادبية .. ولكن الى الادب وحده.
ينبغي ان تحصل تعددية القراءات على مصداقيتها من تحقيق التفاعل
والانسجام بين عناصر العمل الداخلية وان تتساوق التأويلات مع الخلفية الثقافية والالسنية للنصوص ومع خصوصيات النص وقوانينه الداخلية  كما ينبغي ان تدعم القراءة جوانب من النص ولا تحرفه عن مساره ولا تحمله باكبر مما يحتمل ولا نعني هنا ان تعددية القراءة تتسبب عن التباسات في الفهم وتعنت في التأويل وانما تعود الى تفجير طاقات النص ذاته بما يحمله من قرائن بنائية ولغوية تدفع بخاصية التوليد المستمر لدوال النصوص وحقوله .
ليس من المقبول ان تتحول القصة القصيرة الحداثية بالدرجة الاولى الى نص يسعى الى الانغلاق على ذاته في مبنى فني يعتمد على التشكيل اللغوي وتصبح اللغة بديلا حاضرا عن غياب الحدث والشخصية والحوار والسرد وتنتفي العلاقة بين النص ومرجعيته في الخارج لتتحول الى كرة بنيوية جمالية مصمتة.
و برغم ان النص بنية دلالية مستقلة بذاتها فإن النقد لا يستطيع سبر أغوار العمل الادبي مستغنيا عن معطيات انساق مختلفة معرفية واجتماعية ونفسية وشكلانية وهي متداخلة وتشتبك مع النص في حوار وتفاعل وتجاذب !
على أن هذه المظاهر الجمالية لا تكتسب قيمتها وجماليتها ووظيفيتها من ذاتها ولكن من مجمل علاقتها العضوية بنسيج كل نص على حدة وكل ذلك الدفق الشعري يقترب من خلق حالة شعرية وجدانية .
ان انجراف الاتجاه الحداثي نحو الكارثية والكابوسية ولغة اللحم المكشوف والصدامية مع الواقع الاجتماعي ومع التاريخي وغلبة الذاتية والفردية المأزومة انما هي تمثل للشرط الموضوعي والاجتماعي المأزوم ومحاولة للتعبير عنه وكذلك للانفكاك منه .
يترتب على اقتراب القصة القصيرة من الشعرية واهتمامها بالبعد الجمالي القول بان القصة لم تصبح شعرا وانما نزعت الى جهة التعالي على الواقع وسعت الى الالتصاق بجوهر الادب ومؤثراته وخواصه لانها ابصرت نفسها تأسيسا للجمال بعيدا عن قبح الواقع وارتباكه وفظاظته
ان التمرد يصل مداه بمحاولته نبذ استخدام اللغة التقليدية ورفض الاشكال والتقاليد القصصية فيما يتصل بالعناصر التقليدية من شخوص واحداث وحبكة ولحظة تنوير .
 قامت المجموعة القصصية بتهديد اللغة وتعرية العلاقات الانسانية في الاسرة بالذات باعتبارها صورة للمجتمع الكبير وتعكس علاقاتها وملامحه وقامت باقتحام المغاور في اللاوعي وتدمير الحدث واعلان الحرب على السائد والمقبول والغالب وهذا ما نجده  بين الام والابنة في قصتي ( اكروبات    ) و( ليلى وانا  )  و والاب وابنه في قصة ( في الحفرة ) والصبي وأبويه في ( ستفعلون  ) . وهكذا يمكن القول ان الرؤية الفنية قاتمة وغير مستشرفة للحلول ولا تتنبأ بأي شيء فهي ضد الادلجة وضد الحلول السهلة ولا تريد ان تكرس نفسها لغير مشروعها الفني ففي قصص المجموعة للقاصة الدكتورة هدى نقع على براثن السلطوية البارزة وفحيح المعاناة المقموعة كما في قصتي ( الظل ) و( العدالة ) .
يحمد للقاصة د. هدى النعيمي أنها لم تستغرق في ( شعرية ) قاتمة تفترسنا وتقذف بنا الى دهاليز الهذيان والهلوسة والأنوية المغلقة . لقد ظللنا مع هدى النعيمي في مجموعتها أباطيل ملتصقين بأهداب (الحكاية ) مما يعني تحقق التشويق والإمتاع والتلفيع بالأجواء الكابوسية والترميز المكثف بل ان القاصة – في مجموعتها ( اباطيل ) لم تكتف بأسلوب شعري في فضاء لغوي مجتزأ ونقلتنا الى ( حالة ) من شعرية الصورة والترميز والمناخ الكابوسي. لاشك ان الرؤية الفكرية المضببة للأنا الكاتبة والانا الحاضرة في النصوص تهيمن على مجمل المجموعة الأمر الذي أشعل رمادا وأثار شهوة الشخبطة والتخليط والتهشيم والانشعابات الحرة في تجربة القاصة د. هدى النعيمي . قد ترتهن الرؤية الفنية – في جملتها - لمنظور نخبوي مضبب  وللترميز الجاهز الذي يلفع منظور القاصة  ولذلك فان معظم القصص ملغمة بتلك الأفكار المتأزمة والتهويمات التي خاضتها القاصة في قصصها وبرغم اختيار القاصة لرموز من المتن الثقافي الموروث والعصري فانها تعاملت معها بصورة معتمة ومن منظور التمزق والاغتراب والاجتزاء  وذهبت في المعالجة الى الحد الأقصى من الألم والتحطيم وفتنة المغامرة . فقد جاء في قصة أسطورة أخرى ( وحين أغلقت أمها النافذة عنوة كان  جابر التوحيدي  يتلقى إشارات آلهية بأن الفتاة صارت محبوبة قلبه وكان عاشور الناجي  يحدث نفسه بأن " أولاد حارتنا " سيموتون غيظا .. أما ابن حزم فقد ظن أنها صارت حمامة وديعة بفعل طوقه العجيب ) ص 122وفي قصة ( بعد الالفية الاولى ) تجمع القاصة في زمرة الحريم المنتصر كليوباترا ونفرتيتي وعفراء وانديرا غاندي ومارلين مونرو وديانا والزابيث . ونجد في قصة ( بعد الالفية الاولى ) القافية واللغة الفخمة والمحسنات اللفظية الماتعة وكذلك في قصة ( دامس والعزباء ) نجد تلك اللغة بمحسناتها ومستملحاتها وقد أصبحت فضاء حيويا لمبنى القصة ودلالاتها يقول الطبيب مشخصا حالة الكلب دامس ( أسقطت الماء على رأس دامس ثم جمعته في اناء شرب منه حمو رابي .. سلطت على سطحه ضوءا من مصباح علاء الدين ) 94 لقد كانت (عصرنة) التاريخ القديم استحضارا غير منظم ومقارنات ضمنية بيد انها ليست اسقاطات تامة ولا توظيفا مباشرا  بل بالاحرى تفجيرا لطاقة الترميز المشخص واستخدمت القاصة الدكتورة هدى النعيمي حكايات تقليدية مشهورة بتحريف متعمد وانتقائية ذكية مثل حكاية شهرزاد وشهريار وليلى والذئب وداحس والغبراء وفتح عمورية وكذلك حكاية العاق الذي اقتلع قلب أمه إرضاء لعشيقته  . أما في قصة (السيدة الجليلة ) فقد تحدثت المرأة الى نفسها مستخدمة ضمير المخاطب فكأنها تنظر الى نفسها من الخارج وترى نفسها بعيون الآخرين وتشعر حسبما يملى عليها وتضبط تصرفاتها وحركاتها ويومياتها وذوقها وحتى مشاعرها ورغبتها برؤية الآخرين لها فقد ارتضت أن تعيش في ظل الزوج الزعيم حيا ثم عاشت في ظل تمثاله بعد وفاته ( صفقت الجماهير كثيرا ليس للمثّال ولكن للتمثالين أنت وزوجك الراحل صفقت لتمثالك الذي يدعي الحياة وتمثاله الذي يدعي الموت ) ص 104
و في قصة ( في الحفرة ) تتردد أصداء الذات المهمشة المسلوبة وتتكرر المفردات العكسية التي تجمع الشيء ونقيضه فزوجة الرجل ضفائرها سوداء وخصلاتها شقراء وجبينها ضيق واسع وعيناها زرقاوتان عسليتان وهي ذات شعري حريري .. غجري وقد زلت قدمه اليمنى أو اليسرى فوقع في الحفرة . تحدثنا الأنا الراوية في القصة عن فن الطاعة فهي لم تتمرد قط على سلطة الأب ( كان علي أن أنام حين يقول لي نم وافتح عيني واسعة حين يستبدل حرف النون بالقاف ) 18 ولم تكن تلك التناقضات سيان في نظر الذات الراوية ولكنها تدربت على التصالح معها فتعلم الرجل أن يغسل ( رجلي أبيه بماء الورد وان يغسل وعاء بصاقه ) ص 22وامتثل لأمر رئيسه بالزواج من المرأة التي أصبحت زوجته .
وتنوس المجموعة بين الحاجة الى التمرد على السلطة البطريركية ممثلة في الاب وفي الام تارة اخرى وبين الوعي بعدم القدرة على ذلك ففي الحفرة تقول الانا ( سأغني للعودة .. فلأغن للصمت لانهي خرسه ولجدران الطاعة لاقوس جدرانها العارية ) ص 20 ولكنها لا تملك الا ان تقذف ( العلويين ) بالحصوات مثنى وثلاثا ورباعا  . وفي قصة شخبطة على جدار التاريخ ) يرسل المنذر النعماني هدهدا لكي تمثل القاصة بين يديه فتحادث حورسا النائم في حضن امه بالنقال والذي ( عاد من رحلة عمل مع ( طه حسين ) وعندما تمثل امام جدها الاكبر يرميها بالحقيقة الغائبة) كتاب الدكتور فرج فودة  الذي صدر في عام 1986 واثار زوبعة كبرى وتعقد القاصة مقارنة ضمنية بين اغتيال فودة في عام 1992 وبين كل من حرق كتب ابن رشد ومحاكمة الحلاج منذ قرون لانها تنظر الى الامر باعتباره اغتيالا للعقل ومحنة للثقافة العربية (بالرغم من ان فرج فودة – رحمه الله –وصف حينذاك بأنه سلمان رشدي المصري وقد أنكر عليه فضيلة الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله - -في قضية اغتياله أمام المحكمة - وفي شهادة جلية آراءه وافكاره المعتلة ) ويصل الترميز والجو الكابوسي مداه في قصة (عدالة) حيث يصرخ الحاجب ( انه اليوم الخامس عشر قبل المائة وواحد من القرن السابع بعد الذوبان وفي الساعة التاسعة والعشرين سالب تعقد محاكمة " بسمة " في القضية التي رفعها " اجلال " ) ص 35
فقد تجرأت (بسمة) بإطلاق نكتة على (إجلال) فاخترمت هيبته فما كان منه – حسب تعبيره - الا ان ( أدخلت يدي في حلقه لأخرج أداة إطلاق النكات ) ص 36 فاقتلع أمعاء (بسمة ) من جوفه ولكنه لم يجد تلك الأداة الشريرة فأتى ببسمة الذي كان قد مات ليحاكم أمام العدالة الغائبة .
وفي قصة( ليلى وانا) لا تملك (لمى) ان ترفض طلبا لامها التي ترسلها الى جدتها بعد ان تنفحها اليورو لكي تشتري من الكنتاكي ما تأخذه الى الجدة في غابة النيون وفي الطريق تصادف حسيبا فيقول لها ( انا كائن عولمي وجدت لابقى واسقي الصغار من ينبوع الالفية الوليدة ) ص 47
وفي قصة (اكروبات) تأتي الجمل القصيرة موضوعية النبرة سريعة الايقاع لتبين صلف التسلط وبرودة الحياة الروتينية التي تضبط حياة الشخصية وفق أوامر الأم وزوجها ومن تسميه (ابن الأم ) فقبل ان يخرج الجميع ( تتلو امامي صلاتها الصباحية – لا تمسكي سماعة الهاتف لا تفتحي الباب .. لا تفتحي التلفزيون او الراديو لا تفتحي الشباك ..) 56 ولكنها بعد ان يخرجوا جميعا تدوس على زر جهاز التسجيل ( أتقافز على سرير ابن أمي مع ايقاع الموسيقى واصرخ : هيه ) 56 تتمرد الذات وتمارس جميع المحرمات وتتسلل الى مرسم الجار عبر نافذة الحمام متكورة كالصلصال وتمد أصبعها الى محبرة الفنان وتدخل أصابعها ثم تدس ذراعها وتتحرك بحرية بيد انها تسمع الضحكات فتنطلق عائدة وتتلطخ الأشياء حبرا ازرق وتتلون الأرضية والنافذة والحوض والكرسي وسرير الأم والدفاتر والملاءات والطعام وعندما تعود الأم الى البيت تكون الشخصية قد دقت في رأسها مسمارا وعلقت نفسها على الحائط ) 58 وفي قصة ( ستفعلون )
قامت أم محمد بقذف طبق الفول على المائدة وقالت للأسرة ( ستأكلون )
ويتذمر محمد من ثقل الحقيبة فيقال له ( ستحملها ) ويطلب محمد بدلة رياضية جديدة بلغة الحزم ( ستشترون ) لكيلا يطرده المدرس وتقوم ام محمد بإغلاق التلفزيون فتخرج المذيعة أنيابها وتقول ( ستجلسين ) وتعلل المذيعة غضبها بقولها ( قامت الدولة بعمل محطات إعلامية ضخمة كالتي أحدثكم منها ولكن بعض صغار النفوس من المواطنين لا يعجبهم العجب ) 64 ويقال لأبي محمد في العمل (ستكذب) ويقال لمحمد ورفاقه ( ستحفظون ) بل ينتهي الأمر بالأسرة كلها الى الاعتقال بلا جريرة  ويقال لهم (ستعترفون) فما كان منهم وقد اعتادوا إطاعة الأوامر  الا أن ( هزوا أكتافهم (وقالوا )  " نعترف " ) 68

تدور قصص المجموعة ضمن محورية أساسية هي أزمة الذات الواعية المقموعة المهمشة التي تبحث عن الإشباع والحضور والفعل في ادانة قوية للواقع الذي أصبح عاجزا ومفككا برغم سطوته وهيلمانه .
وتقدم الدكتورة هدى النعيمي مشروعها الادبي الذي يراهن على ابتداع حكائية خاصة ولما لم تعد هناك احالة الى خارج النص فقد تقلصت المسافة بين الواقع والتخييل وضمرت التقاليد الادبية وانحرفت المكونات الفنية ( من حدث وزمن ومكان وشخوص وحبكة ومعايير لغوية ) عن مستقرها ومستودعها. واللغة (بمرجعيتها الثقافية والايديولوجية والقاموسية) هي في نهاية المطاف النسيج الذي يرأب الصدع بين الشكل الفني ورؤية العالم  .   
لاشك ان القصة القصيرة الحداثية في قطر مشروع يحاول الخروج من عنق الزجاجة فنيا واجتماعيا وحضاريا في رهان يراوح بين حدي نقيض بين : الإبداع والمجانية ! 
  

نورة ال سعد

ليست هناك تعليقات: