الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

السيّاب يموت مرتين

نورة ال سعد


ابريل 2007
تجتهد فرقة قطر المسرحية لتكون الفرقة (المنتجة) بحق فهي تمثل دولة قطر في أغلب المشاركات الخارجية التي جرت في السنوات الأخيرة الأمر الذي يسجل نقاطا لصالح هذه الفرقة (الحاضرة ) والتي تحاول إنعاش دور المسرح الجاد بعيدا عن التهريج والمسرح التجاري المغرق في الضحالة غير ان الفرقة تحتاج إلى توفيق اكبر في مسألة إيجاد نصوص قابلة للمسرحة) بنجاح على الخشبة .)

في الأسبوع الماضي قدمت فرقة قطر عرضا مسرحيا بعنوان ( السياب يعيش مرتين ) وقد كان عرضا عاديا لنص عادي تضمن اداء متكلفا مستميتا في الجانب التمثيلي لإنقاذ الموقف الا أنه لم يستطع ان يمنع الجمهور المتفرج من التململ في مكانه أكثر من مرة . ماذا قدم العرض ؟ هل أبرز العرض بعضا من الشخصيات الدرامية التي حفل بها شعر السياب في اطار رؤية فكرية أو جمالية ؟ هل استنطق النص الواقع التاريخي الذي تمر به المنطقة و العالم ؟ وهل شهدنا حقا نصا يتحاور مع اعمال السياب او يجسدها او يلقي عليها ضوء من زواية مغفلة لم نكن نعيرها التفاتا من قبل ؟
من الصعب استخلاص رؤية فكرية او جمالية من عرض غمر الجمهور
( القليل) بقذائف من الفذلكات الكلامية المتواصلة .
ان الفكرة في النص للاسف بدت مكرورة ومشوشة والرؤية جاءت تبعا لذلك مرتبكة ومتعثرة ولم نقع على شيء يذكر من (التماعات) النص وسوانحه ! لم نلمس تصويرا لواقع او استبصارا لطريق او كشفا لعلاقات او نبؤة بمصائر ! لم نشهد غير الصراخ والعويل من شخصيات غير متعالقة في نص غير ملتئم ! وكان هناك توليفة غريبة من الشخصيات: حفار قبور في مونولوج طويل فخروج مومس عمياء ثم مرور بائع طيور فشاعر يدعي انه السياب ومخبر وجنرال ببزة عسكرية لم يشخص الاحتلال الامريكي ولم يقترب من ذلك حتى ! وحشر في وسط ذلك كله مشهد جلجامش يبكي انكيدو الفاني !! أكان ذاك الشاعر هو السياب وقد بعث من الموتى ؟ ففيم كان بعثه ؟ ام هو شخص من الاشخاص قد يكون اي احد الا السياب الذي استعار اسمه وانتحل شذرات منتزعة من سياقها الشعري من اعماله.
لقد اعيا المخرج ممثليه بين مستلق على الارض وجالس على كرسي مستدبرا الصالة لمدة تصل نصف ساعة او تتجاوزها حتى يحين دوره ! وكنا نضطر لمتابعة امرين يجريان معا على الخشبة وقد يجري احدهما خلف الاخر.
اسرف مؤلف النص ومخرج العرض معا غنام غنام في صنع ذلك الكم من الحركة المتكلفة المصاحبة بالصوت العالي (اللذين جاءا على كل حال متناغمين مع التكلف اللفظي للنص ). لقد ظل سيار الكواري في دور حفار القبور يدور في النور الخافت على الخشبة دون ان يسلط عليه ضوء يميزه من غيره في مسرح شغلت مساحته بكومة من الاشياء المتكثرة والمبعثرة هنا وهناك : اجساد مستلقية ومغطاة كالجثث واشكال تكعيبية تنزل من السقف معلقة على الرؤوس (اعاقت حركة بعض الممثلين ) ورجل جالس على اليسار منذ البداية وممثلون ملتصقون بالجدار في اقصى الخشبة مصلوبون طوعا وكرها بسبب تعليمات المخرج !
وجال سيار الكواري وصال على خشبة المسرح مؤديا دورا ثقيلا طويلا غير ان اداءه كان مميزا ومنفردا فقد تحرك بعفوية وجرى الكلام على لسانه كأنما ينطقه لاول مرة وكان نجم العرض بلا منازع .
يستطيع المتفرج في الصالة ان ينقل بصره ما شاء الله له في المرئيات كافة على الخشبة حتى اذا ملّ - مثلا - من ثرثرة (علي حسن) وتشويحاته في الهواء (حتى بحّ صوته ) فان المتفرج يستطيع – ببساطة - ان يروح عن نفسه بمراقبة ذلك الممثل في الخلف يقوم بتعبئة عربة المشتريات بالدمى ويصفها على حواشي العربة ثم تركب اسماء مصطفى العربة وتقف ببراعة ودون معين لتتلو علينا تراتيل غريبة كالهذيان عن الموت والطغيان والمدن المستباحة وما اشبه ذلك !
من عجب ان تصل حافظة الممثلين الى هذا الحد من القدرة على الحفظ ويصبون علينا صبا تلك الجمل المنتقاة والمصفوفة بفن غير اننا لا نعرف حقا ماذا يقولون ؟ والام يرمي المؤلف ؟
قد لا يعبر العرض حصرا عما يحدث في العراق فقط وقد يكون النص قد انزاح وانفسح الى تجارب ميتافيزيقية تعالج الموت والفناء او الطغيان في الارض بلغة محملة بالايحاءات الشهوانية التي تتقمم الفاظها من حاويات العهر والاستباحة والمضاجعة !! وما ابعدها عن التماس الفكرة العميقة ذات البعد الفني فضلا عن الفلسفي . وكل ذلك الازيز والقعقعة قد لا يعني حربا معينة ولكن أي حرب قد تطحن آمال الناس واشواقهم يعضد كلامي تلك الصور التي تلاحقت منعكسة على الشاشة الشفيفة وهي صور لحمائم سلام ورجال ظهورهم عارية مخططة من الجلد والتعذيب هذه الصور وتلك السنوغرافيا التي اعتمدت اللون الاسود الطاغي والانارة الخافتة بل ان العرض كله جرى خلف غلالة شفيفة اسهمت في التأكيد على رمزية العرض وتجريديته وتمحوره حول الموت والحرب والطغيان .وكانت السنوغرافيا سندا مهما لنص انتفت منه الخصائص الدرامية من علاقات وتصوير وتشويق وتصعيد وفرجة .
حمل الممثلون العبء الاكبر على اكتافهم لينهضوا بهذا العمل (اللغوي ) ويجسدونه حيا على خشبة تكدست فوقها الاشياء مبعثرة في وضع سكوني ولكن النص لم يتحول الى (عرض ) يتضمن امتاعا بصريا او تشويقا نفسيا لمتفرجين جلسوا على مقاعدهم لمدة ساعة كاملة بدت دهرا ! لم يخفف من وطأتها سوى تلك الالتماعات الذكية التي تفتق عنها فضاء العرض من ملامح عامة في السينوغرافيا فضلا اداء الممثلين واخلاصهم .
يحتاج النص الى تشذيب وتصفية وتركيز ويحتاج العرض الى اعادة النظر في مدته وزوائده وثغراته و.. تكلفه.

ليست هناك تعليقات: