السبت، 30 أكتوبر 2010

تعددية الأصوات في (أنا الياسمينة البيضاء)

 مجموعة قصصية للكاتبة دلال خليفة
بقلم : نورة ال سعد

            تبدو "مادة" القصص عند دلال خليفة ذات سمات عامة برغم خصوصية الشخصية وفرادتها وتبدو الحياة السرية علنية والتجربة الذاتية قضية إنسانية وتتجسد الأفكار غالبا في صور أشخاص لأن التجريد عند دلال خليفة هو رؤية للحياة .
لذلك عمدت دلال خليفة الى منحى تأملي في تجريداتها واختياراتها النخبوية . نجد عند دلال خليفة توظيفا ابداعيا لصورة الراوي متعدد الأصوات ففي القصة القصيرة عندها يبدأ الراوي موضوعيا وصّافا ثم ينتقل فجأة بلا مقدمات إلى وعي الشخصية ويختفي وراء كلماتها أو يستخدمها بحرية وسلاسة ويتظاهر الراوي بالحيادية بينما يغلف موضوعيته بالأحكام والتهكم . في قصة (أشياء فوق بنفسجية) نتصور أن هناك راويا موضوعيا يبدأ كلامه (ما الذي ينظر إليه أولئك الثلاثة ؟ ثم لا نلبث أن نتعرف فيه على صوت أحد الشخوص (آه .. إنه يرسم البحر هل ترين كيف يرسم البحر ؟) ويدخل مباشرة صوت شخص آخر هو الفنان (إنني أرسم أيضا صوت الأمواج هل تسمعها آتية من هناك) ص63 هناك إذن ثلاثة أشخاص ورابعهم الفنان الذي يرسم على الرمال تتداخل أصواتهم وتنتقل الكاتبة بينهم دون أن تفصل أو تحدد لكل واحد منهم كلامه بأقواس تنصيص انظروا كيف تفعل الكاتبة ذلك مرة أخرى ( أترين كيف يرسم النافذة في المنزل الآخر؟ لا أعلم كيف يستطيع إظهار كل ذلك على الرمل؟ هل تعجبكم؟ نعم ! طبعا ! إمم إنها جميلة من يريد أن يشتريها بمائة؟) ص63 هناك وعيان وخطابان لعلكم استطعتم تمييزهما أما في الفقرة التالية فيوجد ثلاثة أشخاص (لا يوجد إلا هذه الأطلال وهذا ما يجب أن ترسمه لتكون لوحتك واقعية . هل أنت رسامة؟ لا ولكني اعتدت على منظر القرية بهذه الأطلال . أما أنا فرسام واعتدت على الحرية والبحث عن الجمال .. يا جماعة الخير لماذا الاحتجاج على المرفأ؟ إنه جميل على كل حال)

لم تفصل الكاتبة هذه الحوارات المتشابكة وكأنما أرادت من صورة (الآخرين) أن تكون صورة واحدة إزاء صورة الفنان فهم جميعا في السلة نفسها بجهالتهم وفضولهم وقصور نظرتهم للواقع وللفن معا ورغبتهم في انتهاك عمل الفنان وتلويثه وفي عجزهم عن تقييم رؤيته وصوابيتها .

وفي قصة ( النافذة المضيئة ) يبدأ الراوي سردا غير موضوعي ويطعّم بوعيه وشعوره أوصاف المكان والزمان (النافذة المضيئة تعني أن ثمة بشرا هناك شخص ما بقيت روحه متيقظة في المكان) ص55 ثم تبدأ الانتقالات بسلاسة وخفاء (في الجانب المطل على الشارع الخلفي هناك المطبخ. في المطبخ انتهت المرأة من وضع كل الأشياء المطلوبة في الصينية .. تسمع نداء الرجل المتوتر فتتنهد في ضيق ليته يستطيع أن يكون أقل توترا ليته يصبر ليته لا يرفض العشاء ثم يجوع في الثانية بعد منتصف الليل.. ليته ظل مرحا ليته لم يتغير هكذا) ص56 كل هذا الكلام الأخير هو كلام الشخصية ووعيها الذي أصبح جزءا من السرد . وهكذا تمضي القصة في مراوحة غير معلنة بين سرد الراوي وانتحاله لوعي المرأة وكلامها في انتقالات محكمة تمسك فيها الكاتبة بكافة الخيوط بيدها دون أن ينتبه القارئ أو ينزعج . تبدو دلال خليفة في كتابة القصص مثل تلك الطفلة في قصة (اللوحة) تقوم برسم الأشياء واحدا تلو الآخر ملحقة الرتوش والتفاصيل والإضافات شيئا فشيئا لافتة انتباهنا لما فشلنا في اقتناصه للمرة الأولى وربما كان يحسن بنا في هذه المجموعة أن نسمي دلال خليفة فنانة وأن نتعامل مع أقاصيصها بوصفها لوحات فنية . تكتب دلال خليفة في قصة أنا الياسمينة البيضاء (تناثرت الأزهار برشاقة . أخذت تعلو وتهبط وتثير البهجة . تجتمع باقة حلوة ثم تتناثر في الفضاء في مرح ورشاقة) ص 9
لا تحمل الكاتبة في يدها فرشاة وألوانا بل تستخدم اللغة بفنية وتوظف -ببراعة- وعي الشخوص وتجريدات فكرية صعبة التأبيد .
وفي القصة ذاتها يحاكي الراوي وعي الياسمينة (تسمع صوتا كونيا يوحي إليها بالكلمة فتواصل ثم تسقط ثانية) ص 9
ثم يتخلى السارد عن حيدته الوهمية (الآن سيأتون لينفذوا عليها حكم تلك المطرقة. الياسمينة مخلوق هش كل المخلوقات الكبيرة تستطيع قطفها وتمزيقها) ص 9
ويستخدم الراوي لغة موحية لا ينقصها التهكم على شخوص والتعاطف مع أخرى ولا يني يستبطن كلمة الشخوص ويختفي وراءها لكيلا نستشعر وجوده وتدخله (أمام المديرة تمثل مدرسة العلوم أنها هي التي كتبت الشعر ولغمته بتلك الكلمات الثقيلة لذلك فهي من يتلقى الآن غضب المديرة .. ولكن أهكذا يجزى المدرس المتعاون ؟ كيف ينسى الجميع دائما أنها كتبت جميع أوبريتات الأطفال ؟ كيف ينسون دائما أن أغنيات الاحتفالات والمناسبات بحلوها ومرها والمهرجانات كانت تقع على عاتقها وحدها.. إلخ ) ص15

وتبدو الانتقالات من وعي إلى آخر في أفصح صورها في قصة (لنفسها صنعت غابة) ففي الفقرة الأولى يبدو صوت الراوي مذبذبا منذ البداية مموها وغير منفصل عن الوحدة الشعورية للقصة وللشخصية، إننا لا نعرف من الذي يتحدث؟ هل هو الراوي المزعوم أم الشخصية في القصة؟ وأيهما يختفي وراءه الآخر؟ اقرؤوا معي: (حتى النمور غير آمنة . هناك دائما ما تخشاه أو من تخشاه . هناك دائما ما يهدد وجودها) ص25 تلك هي بلا شك الشخصية التي تظهر القسوة وتبطن الجبن وتبدو كالظباء ولكن في داخلها شراسة النمور .
لكننا فيما بعد لا نطمئن لتلك البداهة الساذجة بأن هناك وعيين وكلمتين ونشك فيمن تصدر عنه تلك الكلمات بالذات لأن السارد يبدأ فورا بلعبة الانتقالات والتماهي مع وعي الشخوص وكلامها (تغمض عينيها في ملل . فقط قوليها أعطني الضوء الأخضر لأنهي الموضوع مع والدك . لا تريده ولا تستطيع قول ذلك) ص25

أما في قصة الثقب فالراوي يكون ظاهرا بيد أنه يشكك في المعطيات التي أمامنا (رب الأسرة طريح الفراش في حقيقة الأمر هو ليس رب أسرة ما عاد كذلك إنما هو رب بيت فيه ممرض وطاقم من الخدم كما إنه في حقيقة الأمر ليس طريح الفراش رأسه فقط طريح الفراش أما باقي جسده فلا يشعر به) ص41
ثم يفسح المجال لكلمة الشخوص ووعيهم بما يحدث لهم (وهو ينهرها عندما تتلاحق في فمه اللقمة خلف اللقمة كلهم أغبياء كلهم حمقى ولا أحد يعرف ما يريده هو تماما حتى ممرضه الذي يعمل كالآلة) ص41

(أثناء مروره بعد أسبوعين من أمام باب القاعة يقع نظره رغم أنفه على الثقب .. إنه بحجم الكف ! ومن الذي علق فيه تلك الخرقة ؟ ألا يعلم أن ذلك يزيده اتساعا؟ من قال إن الثقوب لتعليق الخرق؟) ص43
ونتعثر بكلمة واحدة وراءها وعيان فنحن ننتقل من وعي الخادمة في القصة إلى وعي الراوي بدون فصل (هذا الحقير إن به داء الصغار الذين يريدون أن يصبحوا كبارا . كلهم هكذا يتصرفون بحقارة ويستغلون كل ما تحت أيديهم للوصول إلى ما يريدون ويقتصون من أسيادهم بطرق قذرة والغريب أنهم دائما دائما – ويا للمصادفة الغريبة – يدخلون من الثقوب) ص45
ولكن هناك خمس قصص قصيرة في مؤخرة المجموعة جعلت لها الكاتبة عنوانا جامعا هو (مشهديات) وهي جميعا تسرد سردا ذاتيا لا بضمير المتكلم عن نفسه ولكن على صورة شخص يخاطب شخصا آخر (رجل يخاطب زوجته من وراء القضبان ، وامرأة تخاطب زوجها في قبره ورجل يخاطب ابنه لكنه ليس ابنه حقا وامرأة تخاطب صديقتها ولكنها في الحقيقة عدوتها وأيضا رجل في غيبوبة يخاطب ابنه في اللاوعي . وكلها قصص تغلفها غلالة من الرومانسية مختومة بلحظات كشفية مؤلمة وصادمة للحس .

            إن مجموعة دلال خليفة القصصية " أنا الياسمينة البيضاء " مجموعة  تعي نفسها على أنها خبرة بشرية نفسية وفلسفية عامة. وحينئذ يغدو الخطاب الاجتماعي، جانبا ثانويا ، لكنه في الحقيقة لا يختفي وإن كان يتراجع عن صفته الواضحة في المحاكاة والاستنساخ، ويتجه نحو هدف عميق هو اكتشاف الجوهري والإنساني والخالد. وقد كان النقد الاجتماعي التقليدي يبحث عن الهم السياسي والاقتصادي المعهود المباشر ويتلمس آثاره في محيط الكاتب وبيئته، عندما كان الكاتب نفسه ينساق ذاتيا إلى معالجة الواقع بالنص أو ربط الواقع بالنص، ليؤكد حقيقة انتماءاته الفكرية والاجتماعية والأيديولوجية خارج إطار النص.
وإذا عدنا إلى البدايات فإن مرحلة السبعينيات كانت مرحلة إسقاط للذات النرجسية على خلفية رومانسية لفكر مثالي على يد رواد القصة القصيرة الأوائل ومن أبرزهم صوت نسائي هو كلثم جبر ثم جاءت القصة القصيرة القطرية في الثمانينيات والتي كانت نسوية بالكامل لتدفع باتجاه الهم الاجتماعي بصورة مباشرة وضاغطة إلى حد مأساوي من خلال أقلام خفتت أصواتها اليوم مثل حصة الجابر ولولوة المسند وأم أكثم بيد أننا نجد بعد ثلاثة عقود تقريبا أن هناك روادا جددا للقصة القصيرة في قطر من الأقلام النسائية أيضا أصبح متعينا عليهن التحكم بمهارة وصنعة بالتمازج السحري بين الشكل الحكائي والمتن المعرفي التأملي الذي أصبحت أكبر تحدياته الولوج إلى عالم الاكتشاف، أو المغامرة القصصية المبنية على سرد يفضح الواقع وفق قوانين فنية دون أن يصبح انعكاسا مرآويا له مثل القاصة نورة محمد فرج والقاصة الدكتورة هدى النعيمي.
بقدر ما تعد الرومانسية والواقعية تيارين فنيين فإنهما كذلك منظوران فكريان، لأنهما ترجمة لرؤية الكاتب للحياة وموقفه إزاء القضايا الاجتماعية غير أن محدودية هذين المنظارين وتداخلهما بالضرورة لا يجديان نفعا إزاء تعقيدات الواقع في المرحلة الراهنة ، لذلك يلتفت الكتاب اليوم إلى خيارات أكثر امتاعا وخصبا في جانب المعالجة والإبداع ، في ظل تراث من النقد الشكلاني والبنيوي على مدى عقود أربعة خلت جعل للشكل قيمته الدلالية والفنية والإبداعية الحاسمة في بناء القصة القصيرة .
وبسبب ذلك الكم الهائل من الإحباط واللايقين وانتكاس المشاريع الكبرى ذات الطابع الإنساني لاسيما في العقد الأخير من القرن الماضي لم تعد الأسئلة المرتبطة بجدوى العمل الأدبي ووظيفته مستساغة ولا مطروحة فقد تفككت أوهام كثيرة أقحمت الأدب في أبواب أخرى وقيدته بصنوف الولاء والالتزام بقضايا كبرى كالتحرير الوطني والتقدم الاجتماعي والحركات الأيديولوجية وانتهى به المطاف إلى أن أصبح بوقا أو وسيطا لغيره متحللا من التزامه بقوانينه ومنطقه وريادته الخاصة وقد ارتمى الأدب في عبثية الانشغال بالذات في فردانيتها وعزلتها، ، ناهيك بروح اللامبالاة والسلبية، انسحاقا أمام طوفان المحبطات والمثبطات وانطلاقا من عجز الكتاب والمثقفين عن التغيير بسبب هشاشة مواقعهم كتابا ومثقفين ومفكرين ومنظرين وحتى مواطنين في دوائر القرار السياسي والاجتماعي مما دفعهم إلى عزلة قسرية عن واقعهم فهل اعتزلهم الواقع؟ هل لجأ كتاب القصة القصيرة في قطر إلى خلق التزام داخلي من خلال خلق بنية فانتازية محكمة بديلة عن تشرذم الواقع ولا واقعيته ولا عدالته؟ إن التحولات الاجتماعية الجارية على قدم وساق  في قطر في المرحلة الراهنة لم تؤثر بعد بصورة ملموسة ومثمرة في الظروف التي تعيشها المرأة عمليا، برغم صدور التشريعات وطرح الفرص والقوانين التي انعشت آمال النساء ولوحت لهن بحقوقهن الدستورية والسياسية والإدارية والقضائية، الامر الذي يفسر عدم هيمنة الواقعية كأسلوب سهل في الكتابة أو كنظرة سطحية أو رؤية فكرية مباشرة. ولذلك لم ترتبط الكتابة النسوية بهذا الواقع ولم تعول عليه كثيرا كأرضية لأحداث السرد ومناخه وشخصياته، برغم تمثلها للواقع بأمانة وارتباطها به بصورة أو بأخرى .
ولكن ماذا عن مستقبل القصة القصيرة – فنيا- بعد عقد من السنين عندما تتبلور إشكاليات مشروع الإصلاح والديمقراطية وتداعياته السياسية والاجتماعية ؟
إن القصة القصيرة تمثل فنا تعبيريا تخيليا قادرا بحسب منطقه وضمن قوانينه وطاقاته الفنية والفكرية على أن يرصد التحولات العميقة في سيرورة المجتمعات . والعمل الأدبي يعد – في تقديرنا - عملا متفوقا عندما ينجح في تطويع اللغة وسائر الأدوات الفنية لتمثل الواقع وفق رؤية نافذة بل إن علو الكعب في أساليب الصنعة يجعل من المنتج الأدبي أكثر تعبيرا عن الواقع وأكثر ارهاصا بالمستقبل إذا تحققت البصارة الفكرية.
هذا الاختبار الإبداعي دخلته كوكبة من الأقلام القطرية النسوية المتميزة في المشهد القصصي والروائي القطري الراهن الذي يتسم بأنه مشهد افتراضي لم تتوفر عليه القراءات النقدية الجادة ولم يظهر منه في مقالتنا  هذه سوى شجيرات أمامية من غابة لم تستكشف بعد.

 

ليست هناك تعليقات: