الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

"أحضان المنافي" لأحمد عبد الملك

أول الغيث في السير الذاتية للأدب القطري
ديسمبر 2005
نورة آل سعد

ترى أيهما أكثر بوحا الرواية أم السيرة الذاتية ؟ هكذا سألت نفسي بعد قراءة عمل الدكتور احمد عبد الملك المعنون باسم (أحضان المنافي)  والذي أعلنه رواية .
 
 لقد صدرت أحضان المنافي عن دار بلال في بيروت في طبعتها الأولى عام 2005 لتعلن نفسها -بجدارة -أول سيرة ذاتية أدبية لكاتب قطري . وإذا ما كان الروائي عادة يلجأ إلى خبرات شخصية ، ولكن بصور شتى ، وعبر وسائط متنوعة ، وبتوظيف واضح وفعال ، فإن مادة صاحب السيرة الذاتية تنحصر دائما في إطار (وقائع) ما جرى بالفعل وعليه أن يتقيد في عمله بصحة المعلومات وشفافيتها.   
لاشك أن الأدباء العرب جميعا لم يكونوا بمنأى عن الواقع الاجتماعي متمثلا في خبراتهم الشخصية وذكرياتهم التي تتمحور – أساسا –  حول اصطدامهم بالظروف الاجتماعية بوصفهم مثقفين ومعارضين وغير متوافقين – بالضرورة - مع أوساطهم التي عاشوا فيها . بل ان بعض الأدباء العرب قد لجأوا اضطرارا إلى جنس أدبي حديث وأعني به الرواية لأنه وفر لهم غطاء ووقاء فلم يعد هناك تقيد بالدقة والشفافية ولا التزام بالترتيب والمطابقة في الوقائع فقد أوجدت الرواية حلا مثاليا للشخصية الرئيسة للانتقال برشاقة وخفة من خانة الاعترافات الى تصنيف الرواية الشخصية . كما عد الشكل الروائي مخرجا من ذلك التماس الخطر بين الأدبي والأخلاقي مما يوفر عرض الأديب وسمعته ويفسح له مجالا أوسع وحرية اكبر في الحديث عن نفسه وعن معارفه من الأحياء  والأموات على حد سواء  .
لابد أن نأتي في حديثنا عن (أحضان المنافي) باعتبارها سيرة ذاتية على تعريف فيليب لوجون الشهير و(الكلاسيكي) لفن السيرة الذاتية حيث يصفها بأنها محكي استرجاعي نثري يعتمد أسلوب الوثيقة والشهادة، في إيراد الوقائع والحقائق عن الوجود الشخصي (1) وهو تعريف نافع في حقله للباحثين عن القالب التنميطي للسيرة الذاتية الحديثة غير انه لا يدفعها - في نصوصها المرموقة- إلى استبعاد التخييل تماما لان السيرة تندرج ضمن جنس ادبي يتحرى الصنعة والرؤية معا فالسيرة الادبية لا تكتفي بسطحية ما حدث بالفعل ولا تقف عند وصفه وإيراده اعتباطا في إطار رتابة اليومي والاعتيادي والسطحي.
هل بالإمكان تحديد  تعريف اصطلاحي للسيرة الذاتية، يميزها من باقي الأنواع المشاكلة والرافدة لها في الوقت ذاته مثل الرواية الشخصية، والاعتراف، والمذكرات، واليوميات. وهل تلك الأصناف متمايزة حقا وهل تنتمي جميعا الى عالم الأدب بالنسب والمقادير ذاتها ؟
لسوف يستعصي دائما فن السيرة على القولبة والتعريف والتقييد مادام ليس هناك مثالا يحتذى ولا يمكن ان يوجد مثل ذلك المثال لذلك ستبقى (شعرية) السيرة أمرا غير نهائي وغير مستكمل وخاضعا في كل عصر للتحول والتشكل والتحيين ولسوف تتجلى السيرة في كل ممارسة خاصة بصورة تجريبية مائزة  ونوعية .

هناك مجموعة من النصوص العربية التي تنخرط في سجل الأدب السيري الحديث، تبدأ غالبا من (أيام)  طه حسين وهي أكثرها شهرة وفتنة في رأيي . ان السيرة الذاتية عندما يكتبها مبدع ( قاصا أو روائيا أو شاعرا ) فإنها وان افتقرت الى الوقائع المهمة او حتى المثيرة  فان صاحب السيرة قادر على صياغتها بصورة أكثر شعرية وأهمية من قصة حياة هتلر او الخليفة المنصور أو حتى صدام حسين ألسنا نجد ذلك في عمل أدبي كرواية ( الحزام ) لكاتبها السعودي احمد ابو دهمان؟ هذا ما عنيته بتداخل السيرة بالرواية أحيانا.
 و(الخصائص الأدبية) في السيرة  لا تتعلق حتما بأسلوب الزخرفة والإنشائية البلاغية ولا بالإثارة الفرويدية في منزعيها : اللذة والألم وانما هي بالتحديد التجربة الإنسانية مصوغة فنيا في امتزاج بديع بين الذاتي والغيري .
ولكن هل يبحث الناس في السير الذاتية عما وراء الشخص الشهير من حياة خاصة وسرية ؟ هل يبحثون عن اسرار وعلاقات مشبوهة
 ؟ هل يبحثون عن أخطاء واعترافات  ؟ وهل تعني وفرة المواد والمعلومات كشفا لشخصية الكاتب ام انها تقود الى تضليلنا وخداعنا عن حقيقته في نهاية المطاف ؟
ان أغلب النصوص العربية السردية التي اختصت بالكتابة عن الذات في المشرق العربي ومغربه يمكن إلحاقها بسهولة بأنماط الأدب الشخصي عموما ومن الملاحظ أن كثيرا من المعاصرين العرب لم يتصد علانية للكتابة في فن السيرة وربما حالت بينه وبين ذلك جملة من الاعتبارات بيد أن الكثيرين قد ولجه حتما من أبواب خلفية بحسب الأفق النظري الذي رافق حقبة تاريخية معينة في سيرورة الأدب الشخصي العربي  فظهرت (الايام) لطه حسين و(سارة) للعقاد  ثم خرجت أعمال لم تدرج البته تحت جنس السير مثل يوميات نائب في الأرياف وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم وكذلك الحي اللاتيني لسهيل ادريس وغيرها . لقد أطلق على هذه الاعمال مسمى روايات وعوملت كذلك في تواطؤ تام  بين الكتاب والنقاد بيد ان تلك الروايات تشاكلت كثيرا مع (السير) في خصائص إنشائية مشتركة من أهمها التطابق في جوانب كثيرة مع شخص مؤلفها وخبراته الشخصية دون ان تعلن ذلك تصريحا او تلميحا خلافا لنصوص سيرية اخرى مثل ثلاثية جبرا ابراهيم جبرا التي تعلن صراحة على واجهة غلافها بانها سيرة ذاتية . ومن اللافت ان جبرا  نفسه في مقدمة كتابه البئر الأولى يذكر انه قام بالفعل بتوظيف ذكرياته في عدة روايات مع كامل حريته في اعادة ترتيب الوقائع وتغييرها متى لزم الامر (2) بيد ان جبرا اقتفى في (سيرته) تلك سياقا قصصيا أدبيا في أدواته وانتقائيته وقد تناول في كتابه (البئر الأولى ) مرحلة معينة من طفولته فحسب.
هل نستفيد مما سلف ان الرواية عند أولئك الكتاب كانت سيرة مموهة ام ان السيرة أصلا جنس ملتبس منفتح  على سواه أم ان المبدعين عموما في أعمالهم الادبية يتنقلون على رقعة شطرنج تمثل مساحة متقاطعة من البوح والكتمان كما عبرت فرجينيا وولف ذات مرة ( كل سر في نفس الكاتب وكل تجربة في حياته وكل سمة من سمات عقله نجدها مكتوبة في ثنايا مؤلفاته ) (3)



لم يكن يكفينا ان الرواية الحديثة جنس ملتبس حتى يقدم الينا الكاتب الدكتور أحمد عبد الملك عملا أدبيا ملبسا يقع مذبذبا بين أدب الاعترافات والرواية الشخصية وصفه الكاتب بأنه رواية ولكنه قدم – بالفعل - اول سيرة ذاتية في الادب القطري  
السيرة الذاتية ذلك  "الفن " الذي يواجه مشاكل عديدة في ردود الافعال عليه، لاسيما من قراء هذه المنطقة الصحراوية حيث الطبيعة العقلية المحافظة التي تنزع الى الاستخفاء وتحبذ عدم كشف العيوب وتميل الى تصوير نفسها كاملة وتامة على العكس مما فعل (ميهود)الشخصية الرئيسة في احضان المنافي.
 ولا مناص من ان نرى في شخص ميهود صورة عن شخصية المؤلف نفسه :سيرته وحياته ومعاناته . تصحبنا منذ البداية تلك النبرة التي ما ان تخفت حتى ترتفع ضاجة بالشكوى والتذمر لتغمر فضاء الكتاب وفراغاته الأمر الذي جعله مرثاة ذاتية وحول العمل الى محاكاة مزدوجة للسيرة والرواية معا . ان الكتاب منذ البدء يفرض حالة نفسية وذهنية واحدة لشخص ميهود المتحدث بضمير المتكلم والذي تتداعى أفكاره من مكانه على كرسي صلب في مقهى شعبي منسي في الزمن وتروح به الذكريات متسلسلة زمنيا ولكن متقطعة إذ يعود مرة بعد أخرى إلى ذلك المقهى لا في الزمن نفسه ولكن بعد مضي سنوات لم تزده إلا اجترارا لمرارته وندبا لحظه . لطالما بكى (ميهود) على ضياع المؤهلات والكفاءة والإخلاص والتفاني أمام انتصار التمييز والمحسوبية وشعر بالظلم والقهر ولكنه لم يملك سوى ما اسماه (الاحتجاجات الخرساء ضد الأشياء المقلوبة) (ص 69)  يقول ميهود الذي يجلس على المقهى متفرجا على الحياة وهي تمضي بلا اكتراث به :( الناس صامتون صمت الموت يمشون وآذانهم مغلقة لا تلفظ سوى العلكة لقد أصبحت احدهم لا فرق هنا بين متعلم وجاهل لقد دخلت ضمن القطيع) ص 174 وتدور حوارات شائقة طويلة نسبيا بين الأصحاب ميهود ومحمود وصلاح في ذلك (المقهى – الوطن) ويدافع ميهود عن نفسه:
-      نحن لم نيأس . لقد ادخلونا دائرة اليأس  ص 249
و ينتهي هذا الحوار بقول محمود ( - .. دعونا نذهب نموت في منازلنا ) ص 251
وقد أفرط الكاتب الدكتور أحمد عبد الملك في إيراد الفقرات المقالية ولا عجب في ذلك فهو رجل إعلامي في المقام الأول . تتلاحق فقرات اخبارية تتراوح بين اربع الى ست سطور كالتالي
( * قبل اسابيع اعلن وزير الداخلية السعودي أن الاخوان المسلمين اصل البلاء في المنطقة .. 
*رسالة بن لادن – عبر قناة الجزيرة – تدعو الى الجهاد
* انقسام دولي حول ضرب العراق
* ندوة علمية مغلقة تشير الى ان تكلفة الحرب على العراق ..) ص 58
بعدها يقول ( ماذا تفيد الموهبة او الكتابة يا صديقي في مثل هذه الفوضى !) ص59
ويقارن الكاتب بينه وبين الدكتور فوزي وزير المالية العراقي كما ورد على لسان رفعة الجادرجي في كتاب ( جدار بين ظلمتين ) بل انه يتقمص شخصية الجادرجي الذي كان محطا لحقد وضغينة رئيس المخابرات سعدون شاكر ويقول ميهود ( أيكون هناك سعدون شاكر في مكان آخر من العالم ويمارس نفس دوره ؟ هل تكون المزاجية معولا رئيسيا في تقدير الناس وتصنيفهم دونما اعتبار لمؤهلاتهم واتجاهاتهم الفكرية ؟ ) ص 60 لم يكن ميهود ذا اتجاه فكري ولا سياسي ! ولم تتناول السيرة توجهات الكاتب الدكتور احمد عبد الملك ولكن ميهود أشاد  في الفقرة التالية بعبد الناصر ( كان عبد الناصر يمثل لنا النموذج والرمز في قضايا الكرامة العربية مع كل الاخطاء والملابسات التي ظهرت ابان فترة حكمه ) ص96 كما اشار الكاتب من طرف خفي وبصورة سريعة للتيارات الأخرى التي استقطبت الشباب القطري بقوله ( سعد خاض معتركا سياسيا وتعرف على جماعات حزبية عربية ووطنية ! واخيرا ابدى ميلا شديدا نحو التدين )ص 85
لقد استسلم الدكتور أحمد عبد الملك طويلا وكثيرا لخواطره مسترسلا 
في خطابه الصحفي ( العيش في (وجد) حتم علي المقارنة ما بين الحياة في امريكا وبريطانيا والحياة هنا .. )ص 211 ثم يتحدث عن الدين وعن المواضعات الاجتماعية بأسلوب مقالي ( اين الأخلاق في قمع الاصوات المنادية بالإصلاحات في العالم العربي ؟... أين الأخلاق في استيلاء البعض على مساحات شاسعة من الأراضي ..؟ ... أين الأخلاق في تصنيف المجتمع الى فئات  وتحديد فئة الجنسية... لماذا يعتمدون على الصدف البيولوجية التي تجعل احدهم من الاصلاء وتجعل من الآخر من البدون او من الطبقة الأخرى ؟) ص 213
ولكن الكاتب يتوجس شرا مما حوله ففي اجواء الكبت والتنكيل لا يدري المرء( هل صنعت الجهات الخفية مني بطلا كرتونيا وضللت المسئولين عن توجهاتي وسلوكياتي ؟ ومن اكون حتى يهتمون كثيرا بأمري ؟ هل تعتبر كتاباتي في السياسة في الصحف الخارجية تهمة للطعن في وطنيتي واخلاصي لمجتمعي ؟ ص 292 وينافح ميهود بقوة ومرارة عن حقوق المثقفين الباحثين عن ادوار والمتعطشين الى التقدير .
ولعل اهم ما قيل في ذلك جاء على لسان محمود  حين قال :(
-      نحن جزء من المشكلة . لقد منحتكم الدولة نعمة الحرية بقرار . ولم يجرؤ احد منكم على الكتابة ..) وعندما تدخل بو عبد الرحمن
-       نحن ؟ من يسمع صوتنا يا محمود ؟ ثم هل تعتقد بأن رؤساء التحرير سوف ينشرون ما بداخلنا دون حذف او إضافة ؟
-      رد محمود بسخرية أكثر حدة :
-      لديكم قرار بحرية التعبير . يمكنكم التظلم في المحاكم ) ص 66
وتأتي بعض الترميزات مفعمة  بالإيحاء لاسيما حين  يبكى (ميهود )على ضياع الوظيفة المرموقة والفرص السوانح والتي تمثل انتصارا لثقافة التمييز والاقصاء على مواصفات الاستحقاق والمؤهلات والاخلاص  ويقارنها بموقف (الجوهرة) من صاحبه (احمد) حيث يبذل لها حبا ووفاء وتلهو بعواطفه !  ( يشكو احمد الجوهرة وانا اشكو وردة كيف تتخلى الجوهرة عن انوثتها حبها كرامتها وترمي احمد الى شارع التيه ) ص 242 ويغلب على السيرة الأسلوب المباشر حيث يتحدث صاحبها في مونولوج داخلي واحيانا جانبي عن خطراته ووجهات نظره ويجتر آلامه عبر مقارنات وحديث نفس غير مضمر فضلا عن سرد لما كانت عليه الحياة في لندن او سيراكيوز او (وجد) او ( وردة ) التي لم تكن سوى قطر بلد الكاتب ووطن (ميهود) .
ويعود ميهود الى الزمن الحاضر ويتساءل
( لم استطع ان افهم هذا الصمت المطبق الذي يلف المجتمع . ندوات ومعارض ومؤتمرات . نشاطات اعلامية مكثفة وانفتاح على التجارب الدولية في كل المجالات . لم استطع استيعاب شكل التعارض الداخلي الذي يعيشه المجتمع... لم يكن هناك مفهوم محدد للانفتاح بمعانيه الفكرية والثقافية . لا احد يسأل ولا احد يجيب .. الى اين نحن نسير ؟ ) ص173
تنتهي هذه (السيرة ) بكل أسئلتها وحواراتها ومرارة صاحبها بهذه الكلمات الموجعة .
بالرغم من أن السيرة عمل مرتب منظم  فإنها بلا شك عمل فني يختط لنفسه انتقائية معينة ومبنى خاصا وأدوات فنية شأنه شأن الرواية التاريخية مثلا التي تتوخى الأمانة والدقة والموضوعية بيد أنها تعمد إلى شكل روائي يعتمد الصنعة الأدبية بأركانها جميعا او بعضها من مبنى وأسلوب والشخصيات ولكنني أرى ان الرواية تبقى في نهاية المطاف شكلا مخصوصا يحتفي بنفسه ويمتنع على كل ما عداه وهو نص يختزن قوانينه النوعية الذاتية بينما السيرة حديث عن شخصية وراءها المؤلف ذاته ولا نستطيع التعامل معها بصورة موضوعية دون ان تنزلق قراءتنا الى مسالك التحليل النفسي والاجتماعي و الأخلاقي لان آراءنا وأذواقنا سوف تتسلل حتما الى نظرتنا الى الحقائق او التجاوزات الموضوعية التي وقع فيها صاحب السيرة.
ليست (أحضان المنافي) سوى اول الغيث في سلسلة من اعمال ادبية قادمة تتناسل سيرا لكتاب وكاتبات من قطر قد يتخذ بعضها -كما آمل- سمتا أدبيا أكثر حرفية وصنعة ليحكي مرارة السنوات العجاف وبحر الأفكار المتلاطمة التي صارعها شباب هذه المنطقة المثقف في الخمسينيات الثائرة والستينيات الفائرة والسبعينيات الهامدة  .



هوامش

(1)          انظر السيرة الذاتية في الادب العربي – تهاني عبد الفتاح شاكر – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط 1- عام 2002 – ص 10
(2)          انظر البئر الاولى – جبرا ابراهيم جبرا - – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط 2- عام 2001 – ص 8
   (3) فن السيرة الادبية – تأليف ليون إدل - ترجمة صدقي حطاب دار        العودة بيروت ط1 عام 1988 - ص92

ليست هناك تعليقات: